د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
كتاب (الشيخ عبدالرزاق بن محمد القشعمي: لمحات من حياته الاجتماعية)، يأتي ضمن سلسلة مباركة يوالي نشرها بدأب وصبر مدهشين أستاذنا الجليل النبيل أبو يعرب محمد بن عبدالرزاق القشعمي، ومن يقترب من هذا الرجل يعلم مدى ما يتصف به من حب لبلاده ولغته وتاريخها عامة والشفهي خاصة، ويرى ما يتحلى به الرجل من تواضع ودماثة خلق، ليس هذا الكتاب لمحات عن القشعمي بل لمحات عن حياة سابقة يكاد إيقاع الحياة السريع اليومَ ينسينا أمرها، فالكتاب حافل بتفاصيلَ ومفرداتٍ وأسماء أماكنَ أعرفها ويعرفها من هم في سني؛ ولكن الشباب شباب اليوم لا علم لهم بها، فقد تغيرت البلاد ومن عليها، ولذا قلت لأخي أبي يعرب ما أحوجنا إلى شرح معاني تلك الألفاظ لهم، وأما تفاصيل خريطة المكان فليس من سبيل إلا برسم يبين الشوارع القديمة والبيوت، وهذا التغير نال مدن بلادنا كلها، فمدينة المذنب اليوم ليست التي كنت أعيش فيها أثناء دراستي للابتدائية والمتوسطة.
تزين غلاف الكتاب الأمامي صورة لثلاثة أعمدة في جامع، وتزين صورة الغلاف الخلفي ثلاثة أعمدة أخرى؛ ولكنها أعمدة شخوص إنسانية لثلاثة رجال فضلاء هم محمد بن عبدالرزاق وابنا محمد عبدالله وباسل، وقفوا بفخر تحت لوحة اسم الشارع (شارع عبدالرزاق القشعمي: حي الحزم).
فمن الشيخ القشعمي؟
صبي ولد ونشأ في الزلفي، قرأ القرآن على الشيخ محمد اللحيدان حتى أتم حفظه وأتقن تلاوته، وكان أن أصيب بالجدري فأتى على بصره، ولكن الله عوضه بقوّة البصيرة والذكاء والجراءة والصوت الجهْوَريّ، والطموح الذي لم ينل منه كفّ البصر، رحل وهو شاب إلى الرياض طلبًا للعلم، وهناك اتصلت أسبابه بكبار العلماء في الرياض، بل لازم الشيخين محمد بن إبراهيم وعبدالله بن عبد اللطيف، لازم أهل العلم حتى عُدّ منهم، فهو الشيخ عبد الرزاق بن محمد بن عبدالله القشعمي، وإنما أسعده ليكون كذلك ما اتصف به من صفات جليلة، قال ابنه عبد اللطيف «يمتاز بالحرص على كل الأمور، وخاصة ما يتعلق بأمور الدين، ويمتاز -رحمه الله- بالبتّ بالأمر سريعًا، يكره التسويف كرها، حتى إن بعض الناس يعد ذلك من (قل الصبر) والصحيح أنه لا علاقة لذلك بقلة الصبر بل إنه دليل على حبه سرعة إنجاز العمل مهما كان ذلك العمل»، ويستشهد عبداللطيف لذلك بمواقف لا تخلو من طرافة، منها أنه في إحدى المرات قال لأحد أقاربه اعمل مكانًا للبقرة فبدأ بالعمل إلا أنه تأخر بعض الوقت فما كان من أبيه إلا أن أحضر السلم وقام بإكمال العمل، إلا أنه وللأسف الشديد سقط من فوق السلم فكسرت ذراعه. ويقول محمد بن عبدالرزاق عن والده «عاش في بيئة مختلفة عما نعيشه اليوم، وهو من الجيل الذي يعتبر القسوة والشدة في تربية الأبناء هي الوسيلة الواقية بعد الله من الانحراف أو التراخي. فهو من الجيل الصارم الذي لا يقبل الحوار أو المناقشة، وبالذات مع صغار السن. وهذا لا يستغرب إذ قد يكون من باب الحرص الزائد، وقد يكون من أسباب أخرى كفقده بصره مبكرًا، أو هجوم (إخوان من طاع الله) عليهم وهم في طريقهم إلى الرياض - رحمهم الله وأجزل لهم المثوبة والمغفرة. وهكذا نشأنا على التوجيه الصارم الذي لا يقبل الحوار والمناقشة». أما حكاية (إخوان من طاع الله) فيرويها على لسان والده، قال «وفي إحدى السفرات كنت مع الأخوين دخيل الله وعبد الكريم ليوصلاني إلى الرياض ويعودا للزلفي، وكان معنا جمل صعب يحملني مع ما نحمله من أمتعة متواضعة، وبعد أن خرجنا من المجمعة وابتعدنا خرج علينا (إخوان من طاع الله) وكان أي واحد يمشي ولا يضع عمامة فوق رأسه يكون عرضة للاعتداء عليه واتهامه بالكفر، وكان ذلك قبل استتباب الأمن، مما حمل أحد المهاجمين إلى إطلاق النار فجفل الجمل وهرب عائدًا إلى المجمعة، وبقي أخويَّ حتى استتابوهم وأخذوا ملابسهم،وتركوهم يتعقبون أثر الجمل الهارب وأنا متمسك بالشداد. دخل الجمل في نخيل مهمل بالقرب من المجمعة، لحق بي أخويَّ عراة كما خلقهم ربهم، وأخذوا ما يستر عورتهم، وجاء من يحملهم إلى مدير بيت المال عبد المحسن التويجري - فيما أظن - وأنا ممسك بالشداد فلم يستطيعوا فك يدي إلا بعد أن صبوا عليها السمن. وبقوا بالمجمعة حتى يتيسر من يرافقهم للرياض، وسمع العم عبد المحسن بما تعرضوا له وجاء للمجمعة للبحث عنهم فالتقاهم قبيل صلاة الجمعة بالمسجد فبكى حينما شاهدهم وبكوا معه وأبكوا معهم من في المسجد».
اتصلت أسباب هذا الشيخ الجليل بملوك هذه البلاد؛ إذ صلى بجلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود في شهر رمضان سنة 1336 هـ، ثم صلى بالأميرة حصة الأحمد السديري زوجة جلالته والدة خادم الحرمين الشريفين وأشقائه الكرام، وتولى تعليمهم القرآن حتى كانوا يعدونه والدًا لهم يقدرونه ويجلونه، ولازم العمة كما كان يسميها ويتولى مهمات تطوعية تكلفه إياها كبناء المساجد ومساعدة الفقراء، حتى توفيت -رحمها الله-، وصادف أنه كان في الحرم يوم كسفت الشمس ولم يكن ثمة إمام حاضر فكلف الصلاة؛ ولذا عدّ من جملة أئمة الحرم، وتفرغ للتدريس بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة، وتوفي عام 1397هـ -رحمه الله- وجعل الجنة مثواه، وقد خلف من الذرية أحد عشر ابنا وسبع بنات.
كتاب جدير بالقراءة لما احتواه من تاريخ شفهي فيه من الطرائف والعبر والحكايات الجميلة ما يستحق القراءة، والكتاب من منشورات مؤسسة الانتشار العربي في الشارقة كانت طبعته الأولى في 1446ه/ 2024م.