د.حادي العنزي
عزيزي الموظف، عزيزتي الموظفة، إذا شعرتم بعدم الرضا أو نقص الطاقة وقلة الدافعية نحو العمل، أو كان لديكم انفعالات غير إيجابية نحو عملكم أو المنشأة التي تعملون بها، أو حتى شعرتم أنكم لا ترغبون في الذهاب إلى العمل أو القيام بأي مهمة؛ فهذا يعني أنه وجب عليكم الانفصال عن العمل حتى لا تحترقوا وظيفياً!
والانفصال هنا لا يعني الاستقالة أو ترك العمل، وإنما قدرة الموظف على قطع الاتصال بالعمل خارج ساعات الدوام الرسمية، وممارسة حقه الإنساني المشروع؛ لأجل التوازن بين الحياة العملية والشخصية، مما يُساعد على تحسين الصحة النفسية وزيادة الإنتاجية.
وقد برز هذا المفهوم في السنوات الأخيرة مع تزايد الضغوط النفسية الناتجة عن العمل، بعد أن أصبح العديد من الموظفين والموظفات يواجهون تحديات كبيرة تتعلق بالضغط النفسي والإرهاق أو الاحتراق الوظيفي، الذي يُعرف بأنه حالة من الإرهاق العاطفي والجسدي الناتج عن ضغوط العمل المستمرة.
على سبيل المثال، قد يتلقى الموظف طلبات من مديره أو زملائه في العمل بالشركة حتى في أوقات متأخرة من الليل، مما يؤدي إلى شعورٍ دائم بالضغط والتوتر. وهذا الوضع يمكن أن يؤثر سلباً في الصحة النفسية والإنتاجية، ويصبح من الصعب على الموظف الاسترخاء أو قضاء وقتٍ مُمتع مع العائلة أو الأصدقاء.
تشير بعض الإحصاءات إلى أن هذه الظاهرة تُمثل تحدياً كبيراً يُعاني منه الموظفون بمختلف درجاتهم الوظيفية، فقد أظهرت دراسة أجراها معهد ماكينزي أن أكثر من ثلث الموظفين في (29) دولة، أكدوا معاناتهم مـــع الإجهاد، وأن (54 %) من العاملين الذين عملوا عن بُعد في السعودية خلال جائحة كورونا لم يؤيدوا استمرار العمل بهذا النظام بعد انتهاء الجائحة، مما يعكس الضغوط النفسية المرتبطة بالعمل عن بُعد، والانزعاج من استمرار المراسلات الوظيفية على مدار اليوم دون مراعاة الساعات المحددة للعمل والأوقات الشخصية للموظفين.
ودراسة أخرى بينت أن غموض الدور الوظيفي والعبء الزائد لهما تأثير مباشر على ارتفاع مستويات الاحتراق الوظيفي. فيما تشير الإحصاءات إلى أن الإجهاد الوظيفي يُمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية نفسية وجسدية، حيث يُعاني حوالي (30 %) من الموظفين من الآثار السلبية على صحتهم بسبب ضغوط العمل.
تعود أسباب ذلك إلى أن ثقافة العمل المستمرة في بعض الشركات، تتوقع من الموظفين أن يكونوا متاحين دائماً؛ مما يؤدي إلى تداخل العمل مع الحياة الشخصية، بالإضافة إلى افتقار العديد من المؤسسات إلى سياسات تُحدد ساعات العمل وتمنع التواصل خارج أوقات العمل.
والواجب على الشركات وضع سياسات واضحة تمنع الموظفين من مطالبة زملائهم، وخاصة الأقل منهم في الدرجة الوظيفية، من تنفيذ أي أعمال خارج ساعات العمل الرسمية، إلا بتكليفات مُحددة مُسبقاً، ويمكن أن تشمل هذه السياسات تحديد أوقات العمل بدقة، وتوضيح أنه لا يُسمح بالتواصل خارج ساعات العمل إلا في حدود طارئة أو تكليفات مهنية تتم وفق آليات العمل، وبما يضمن الصحة النفسية والجسدية للموظف.
وقد بدأت العديد من الدول في تطبيق مثل هذه السياسات التي تسهم في دعم حق الانفصال عن العمل، ومن هذه الدول أيرلندا وبلجيكا، حيث تم وضع قواعد سلوك تُلزم أصحاب العمل بالتفاوض مع الموظفين حول سياسات حق الانفصال عن العمل. أما في المملكة المتحدة فإن الهدف من الانفصال عن العمل هو ضمان حصول العاملين على بعض الوقت للراحة، والاقتناع بأن ثقافة العمل المستمر ضارة وغير داعمة للإنتاجية بصفةٍ عامة.
وفي المملكة لا يوجد لدينا نص قانوني صريح في نظام العمل السعودي يُحدد «حق الانفصال» كما هو مفهوم في بعض الدول، إلا أن هناك بعض الجوانب التي يُمكن اعتبارها ذات صلة بهذا الحق، ومنها: أن القانون السعودي يضمن حقوق العمال في الحصول على فترات راحة، وهو ما يمكن اعتباره جزءاً من حق الانفصال، حيث ينص النظام على ضرورة منح الموظفين فترات راحة خلال ساعات العمل، مما يُساعد في تقليل الضغوط النفسية.
وعند العمل خارج ساعات الدوام الرسمية (الإضافي) فإنه يجب على أصحاب الشركات دفع تعويضات للموظفين. وهذا يشير إلى أهمية احترام وقت الموظف وعدم تحميله أعباء إضافية دون تعويضٍ مناسب، ووفقاً للمادة (75) من نظام العمل فإنه يجب على أي طرف يرغب في إنهاء العقد إبلاغ الطرف الآخر بفترة إشعار تتراوح بين (30) إلى (60) يوماً، حسب نوع العقد. ووجود فترة إشعار قبل إنهاء عقد العمل، يعني أن هناك اعترافاً بأهمية إعطاء الموظف الوقت الكافي للتكيف مع إنهاء العلاقة العمالية، كما أنه يُعد نظاماً مهنياً متقدماً، وإنسانياً سامياً في احترام الطرف الآخر ومراعاة حالته وظروفه سواءً للمنشأة أو الموظف.
ونتيجةً للتحسينات التي دخلت على نظام العمل السعودي وجهود وزارة الموارد البشرية في متابعة القطاع الخاص ومراقبة أعمال الشركات عن كثب يُلاحظ مؤخراً وجود اهتمام متزايد من الشركات السعودية في الالتزام بتطبيق الاستراتيجيات لتحسين بيئة العمل وتقليل الضغوط، مثل تقديم برامج الدعم النفسي وتطوير سياسات العمل المرنة وغيرها.
من المهم أن تستمر وزارة الموارد البشرية ويساندها القطاع الخاص في تعزيز بيئة العمل وتحسين ظروفه، وتقديم برامج نوعية تُشجع على بسط ثقافة احترام حق الموظفين في الانفصال عن العمل، ولا بد من تدريب المدراء والموظفين على أهمية التوازن بين العمل والحياة الشخصية، ومتابعة ومراقبة ذلك من خلال برامج إلكترونية يتم تثبيتها على أجهزة الحاسب الخاصة بالموظفين، مع ملاحظة ومتابعة الأوقات المدونة على رسائل البريد الإلكتروني ومدى امتثالها للالتزام بساعات العمل المحددة لكل موظف، حيث يسهم ذلك في منع تجاوزات (بعض) المدراء من إلزام المرؤوسين بمهام خارج ساعات العمل دون احتسابها لهم كعملٍ إضافي.
ووفقاً للمادة (26) فإنه يجب على صاحب العمل (المنشأة) ضمان صحة وسلامة الموظفين وإيجاد بيئة عمل مناسبة لهم، تُسهم في تعزيز السياسات الداخلية التي تحمي حقوق الموظفين في الحصول على فترات راحة وعدم تشغيلهم في أوقات غير مناسبة، بحيث يتم ضمان الارتياح النفسي للموظف، وعدم الدخول في عمليات الإجهاد الوظيفي أو ممارسة الضغوط النفسية، وبما يكفل ممارسة العمل في بيئةٍ صحية، لا يكون فيها تسلط مدير أو إهمال موظف.
إن تحقيق التوازن بين الحياة العملية والشخصية ليس ترفاً أو رفاهية، بل هو ضرورة واجبة وحق أساسي؛ لضمان الصحة النفسية وزيادة الإنتاجية لخدمة الوطن والمجتمع. وعلى كل موظف أو موظفة أن يسعوا بفاعلية إلى تحقيق الرضا الوظيفي والاستمتاع بحياتهم العملية والشخصية دون أي منغصات قد تأتي من الآخرين، حتى لو كانوا مدراءهم أو أصحاب العمل.
وعلى الموظفين أيضاً أن يكونوا مدركين ومستوعبين احتياجاتهم الشخصية والمهنية، من أجل القيام بأعمالهم ومهامهم الوظيفية التي تتطلبها النهضة التنموية للبلاد ويحتاجها المجتمع للتقدم والرقي المهني والإنساني.
أعتقد أن راحة الموظف ومراعاة ظروفه النفسية يجب أن تأخذ حيزاً أكبر في مناقشات الأعمال وفي الندوات والمؤتمرات، وذلك لأجل استمرار تأمين وتوازن الحياة العملية والصحية للموظفين، وضمان عدم وقوعهم في مشكلات الاحتراق الوظيفي التي تؤرق العاملين وتحد من إنتاجهم وتحرمهم (لذة) الاستمتاع بالحياة الوظيفية، وبالتالي قد ينعكس ذلك سلباً على صحة الإنسان واستدامة عطائه في دعم التنمية المستدامة.