د.عصام بن سالم المحمود
العمارة ليست مجرد أشكال ومبانٍ، بل هي انعكاس للهوية والثقافة وامتداد للحضارة، تحكي حكاية متكاملة عن المجتمع، ومن هذا المنطلق، تأتي العمارة السلمانية كنهج متكامل يجمع بين الأصالة والحداثة، ويركز على الإنسان وخلق توازن مستدام. يستمد ميثاق الملك سلمان العمراني رؤيته من الإرث العمراني للملك سلمان بن عبدالعزيز خلال فترة إمارته لمنطقة الرياض، ليكون إطارًا فلسفيًا ديناميكيًا يحفز الإبداع، وليس مجرد كود هندسي أو وصفة جاهزة. هذا الميثاق، بقيمه العميقة يتطلب من المعماريين استيعابًا واعيًا وفهمًا عميقًا لضمان نجاحه. ومع ذلك، يظل التحدي في تفادي اختزاله إلى أشكال تقليدية تُفرغه من جوهره، مما يجعل كفاءة المعماريين ومدى وعي المجتمع بقيمه عوامل حاسمة في تحقيق رؤيته ونجاحه.
ثلاثية النجاح: المعماري، المجتمع أو ملاك المشاريع، والجهات التنظيمية
في مسيرة تحقيق رؤية العمارة السلمانية، تتضافر ثلاثة أطراف رئيسة لتشكيل المشهد العمراني:
1 - المعماري: صاحب الفكر الذي يحول القيم المجردة إلى تصاميم حية وملموسة.
2 - مالك المشروع: الذي يسعى إلى تحقيق تطلعاته ضمن أطر تعزز جودة المشروع وربحيته.
3 - الجهات التنظيمية والتشريعية: المتمثلة في الأمانات والبلديات، التي يقع على عاتقها خلق التوازن بين أهداف التنمية والالتزام بقيم الميثاق.
وسنتناول في هذا المقال هذه الأطراف الثلاثة، ومقترحات لتفعيل دورهم، وتمكينهم لمواكبة هذه الرؤية العمرانية.
الوعي المعماري
المعماريون الحقيقيون لا يكتفون باستلهام الشكل، بل يدركون المعاني، ويحولون الأفكار المجردة إلى تصاميم حية تخاطب الحواس وتنقل رسالة ثقافية وإنسانية واضحة. هنا يكمن التحدي: كيف يمكن للمعماري أن يرتقي بفهمه وإبداعه ليكون مؤثرًا في تشكيل الرأي العام والذائقة المجتمعية؟
رفع كفاءة المعماريين ليس خيارًا، بل ضرورة لتجسيد رؤية العمارة السلمانية بشكل حقيقي. ومن أبرز الآليات لتحقيق ذلك:
1 - التعليم المعماري المتوازن: يجب أن تجمع البرامج الدراسية بين الجوانب التنفيذية والتقنية من جهة، والجوانب النظرية والفلسفية من جهة أخرى. يحتاج طلاب العمارة إلى دراسة نظريات العمارة وتاريخ الحركات والمدارس المختلفة لفهم العمق الثقافي وراء التصاميم.
2 - التطوير المهني المستمر: تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية تركز على قيم الميثاق السلماني وكيفية تطبيقها بشكل مبتكر. التواصل المستمر بين المعماريين والعمل على توفير منصة وطنية تثقيفية تناقش المشاريع المحلية والأفكار
والرؤى المعمارية المطروحة. لا يشك أحد في جدوى المجلات العالمية ولكن العمارة لها جانب ثقافي محلي كبير يستحسن أن يكون له مكان يجمع شتاته.
3 - التفاعل مع المجتمع: إشراك المعماريين السعوديين في مشروعات تهدف إلى تطوير الأماكن العامة، مما يساعدهم على فهم احتياجات المجتمع وطموحاته، ولعل هذه من أهم النقاط التي سيكون لها أثر مباشر؛ فأفضل صياغة لهويتنا لا شك أنها ستكون بلغتنا.
الوعي المجتمعي
العمارة كما أسلفنا انعكاس لهوية وقيم وذوق المجتمع. فهي جزء لا يتجزأ من حياته، تؤثر في تفاصيل يومه وتشكل جزءًا من ذاكرته الجماعية، ولذلك العمران والمجتمع مترادفان لا ينفصلان يؤثر بعضهم في بعض بشكل مباشر. بينما يشكل المجتمع بيئته العمرانية، يتشكل بها ويعيش وفقها وعلى أطلالها.
لذلك، فإن توعية المجتمع بدور العمارة السلمانية في التعبير عن القيم الثقافية والجمالية يعد خطوة محورية، خاصة أن ملاك المشاريع يلعبون دورًا كبيرًا في تحديد ملامح التوجه المعماري لمنشآتهم. ولذلك نحتاج تعزيز الوعي المجتمعي من خلال:
- برامج توعوية ثقافية: يمكن للجهات المسؤولة تنظيم معارض ومبادرات تُبرز جماليات العمارة السلمانية وتشرح قيمها للجمهور.
- إشراك وسائل الإعلام: تقديم برامج وثائقية ومقالات وحوارات في الصحف والمجلات تركز على تاريخ العمارة السعودية وتطورها.
- الاحتفاء بالمشروعات المتميزة: تسليط الضوء على المشروعات التي تطبق القيم السلمانية بطريقة مبتكرة، لتعريف الجمهور بما تعنيه هذه العمارة في الواقع.
- تعزيز حس المسؤولية: تشجيع المجتمع على المطالبة بتصاميم تعكس هويته بدلاً من قبول التصاميم المبتذلة أو المستنسخة.
الجهات التنظيمية والتشريعية
هيئة فنون العمارة والتصميم شريك في النجاح
في ظل الجهود الرامية إلى تعزيز العمارة السلمانية، يأتي دور هيئة فنون العمارة والتصميم بوصفها الحاضن الرئيس للمبادرات التي تستهدف تطوير القطاع. الهيئة مطالبة بدعم المتميزين من المعماريين، وإطلاق المسابقات التي تعزز روح الإبداع، وخلق حراك ثقافي مستدام يُبرز أفضل ما في العمارة السعودية، وحيث تقوم الهيئة بالعديد من المبادرات
والمسابقات والجوائز إلا أنها ما زالت ترسم لنفسها دورا ومكانا واضحا بين التقاطعات المختلفة في القطاع الهندسي والمعماري.
دور الأمانات والبلديات نحو قيم الميثاق
الاستدامة
الاستدامة ليست مجرد شعار، بل هي قيمة محورية تتطلب من البلديات دورًا رياديًا في توجيه المشاريع نحو احترام البيئة وخدمة الإنسان، ومن هنا، تبرز عدة أدوار حيوية لهذه الجهات:
- أنسنة المدن: من خلال تصميم فراغات حضرية تستجيب لاحتياجات الإنسان. الحدائق، الأرصفة، والمساحات المفتوحة ليست كمالية بل ضرورة تُعيد الإنسان إلى قلب المشهد العمراني.
- تكامل المباني مع محيطها: توجيه المشاريع العقارية لتوفير مساحات تخدم المجتمع، مثل ساحات عامة تربط المباني بالنسيج العمراني المحيط. ماذا لو يتم تقليص مساحة الأدوار الأرضية للعمائر التجارية
والسكنية وجعلها ساحات عامة؟ سيكون لدينا نسيج عمراني به ظلال كافية من المباني وتيارات هوائية لطيفة بسبب تشكيل المباني وبالتالي ساحات عامة مؤنسنة وصالحة للمشي.
- تحفيز الحلول المبتكرة: تشجيع المطورين على إعطاء مساحات عامة وجماليات معمارية وعمرانية للمدينة. يلزم أن يُسأل كل مطور ماذا سيقدم مشروعك للمجتمع المجاور وللمستخدمين.
الفراغات الحضرية: الإنسان أولاً
أسرع وأفضل وسيلة لإيصال قيم العمارة السلمانية للمجتمع هي الفراغات الحضرية فهي القلب النابض للمدينة. هذه المساحات ليست مجرد مناطق مفتوحة، بل هي أماكن تنبض بالحياة وتعزز الروابط الإنسانية.
- مساحات اجتماعية نابضة: فراغات مخصصة للتفاعل الإنساني، حيث يمكن للأصدقاء والجيران الالتقاء، وللعائلات الاستمتاع بلحظات مرحة ومميزة.
- بيئة تحفز الإبداع والهوايات: أماكن لممارسة الهوايات المختلفة تتيح لأصحاب الاهتمامات المشتركة فرصة اللقاء والتعارف. هذه المساحات تتحول إلى منصات لتكوين مجموعات متجانسة تعزز الروابط المجتمعية، مشكِّلة نسيجًا اجتماعيًا ملونًا يثري المدينة بجمال التنوع الإنساني.
- شوارع تحيا بالإنسان: منذ أن استحوذت السيارات على المشهد الحضري، تراجع دور الشارع كمكان للتفاعل. إعادة تصميم الشوارع بما يضع الإنسان في المقدمة يعيد الحياة إليها، ويخلق بيئة آمنة وممتعة للمشاة.
التحديات البيئية: حلول مبتكرة لمناخ متنوع
التنوع الجغرافي في المملكة يفرض على الجهات التنظيمية تفعيل قيمة الابتكار في الميثاق ليكون هناك حلول تتناسب مع طبيعة كل منطقة:
- المناطق الصحراوية: التركيز على صناعة الظل في الممرات والساحات العامة من خلال التشكيل المعماري والعمراني، وأهمية توفير الترطيب من خلال التشجير والمسطحات المائية.
- المناطق الساحلية: تصميم مساحات تساعد في تحريك الهواء، مع إنشاء ممرات مشاة مظللة تستفيد من نسيم البحر.
- المدن الجبلية: مراعاة التضاريس واستخدام مواد بناء تعزز الانسجام مع البيئة المحيطة.
النجاح يقاس بالناس الفراغات الحضرية الناجحة ليست تلك التي تبدو جميلة على المخططات، بل هي التي تعج بالناس من مختلف الأعمار والفئات. نجاح البلديات يمكن قياسه بعدد الناس الذين يرتادون هذه المساحات، ونوعية الأنشطة التي يمارسونها، ومدى شعورهم بالراحة والأمان. إن بناء بيئة عمرانية قابلة للعيش يتطلب تكامل الجهود بين البلديات والمعماريين والمجتمع. المدن ليست للسيارات بل للناس، وأفضل المدن هي تلك التي تمنح سكانها لحظات إنسانية لا تُنسى.
ختامًا:
رؤية تلهم وتبني العمارة السلمانية منظومة قيمية تنبض بالحياة، تستلهم روحها من الميثاق الذي حمل اسم الملك سلمان بن عبدالعزيز، ليكون خارطة طريق نحو بناء بيئة عمرانية تعكس جمال الإنسان والمكان. لنجعلها لغتنا الحية التي تعبر عن طموحاتنا وتروي حكاياتنا. نجاح هذه العمارة يعتمد على التزامنا الجماعي -أفرادًا ومؤسسات- بتحقيق قيمها وتجسيدها في بيئتنا اليومية.
في هذا المزج بين الفكر والإبداع، وبين التراث والحداثة، تتحول العمارة السلمانية إلى جسر يربط بين الأجيال، ورمز يعبر عن تطلعاتنا وهويتنا الثقافية في آنٍ واحد.
بالتعاون بين المبدعين في مجال العمارة، والجهات التشريعية، والمجتمع، يمكننا بناء مدن تعكس جمال الإنسان والمكان، وتصبح نموذجًا عالميًا يحتذى به. مدن تجعلنا نفخر بالعيش فيها، وتجعل الآخرين يرون في عمارتنا انعكاسًا لقيمنا وحضارتنا.