د. شاهر النهاري
حينما نتكلم عن الظاهرة، فهي مصطلح يعبر عن حدث طبيعي يمكن ملاحظته باستخدام الحواس، في ارتباط مع الزمان والمكان والحال السائد، وسنوح حدوث الفرص وتصدرها، وهذا بالضبط ما يمكن أن يقال عن الكاتب والمفكر والمترجم الكويتي، الذي ولد في الكويت سنة 1940م، بطفولة وشباب ارتبط بما كان يحدث في وطنه، منذ انضوائها تحت الاستعمار البريطاني، وبعد خروجها من حدوده، دولة صحراوية قبلية صغيرة، ترنو للنور، عبر دستور خلفته لها الدولة البريطانية، قريب من دستور الإمبراطورية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ما سارع في تحقيق تطلعات شعب الكويت، وفتح مجالات الثقافة، والحرية الفكرية، لتصبح الكويت سباقة لكثير من الدول العربية في الثقافة الأصيلة، والانفتاح المبرز لكثير من المنارات الثقافية والصحفية الحاضنة، تسابق وتجذب بأضوائها معظم مبدعي العالم العربي، وفرصة مهيأة لأكثر أبناء الوطن الكويتي، ابداعا وقيادة لركب الثقافة العربية حين كان المثقف العربي يجد في ثقافتها، وصحافتها وسبقها، ما يفتقده وسط الجفاف.
وحينما نذكر الجوكر هنا فالمقصود الجانب الشمولي الجميل المفيد للجوكر، بأن يوضع في أي مكان وزمان، ويكون مكملا فاعلا مفيدا، وليس بالمعنى الكويتي المحلي «جيكر»، لوصف ما لا يستحسن من الشكل والطلة!
ونعود مع الرميحي لبدايات طموحاته الابتدائية وكيف أنه كان يمتلك الحصان والسرج ومكعبات السكر، وسوط التوجهات البعيدة، فأنهى دراساته الأولية ليبتعث لجامعة درهام في بريطانيا، وينال منها درجة الدكتوراه 1973م، بأطروحة «التغير السياسي والاجتماعي في البحرين 1920- 1970» والتي نشرت بالإنجليزية، ثم ترجمت للعربية وطبعت أكثر من طبعة، وأصبحت من المراجع والأعمال الكلاسيكية في عمق وأسبقية موضوعها، وكل ذلك وهو ما يزال شابا غضا، وبلغة انجليزية مكينة كانت خير مساعد له في مساراته المتشعبة بين اللغتين، متمكنا من حوز التفوق والتفرد والتأسيس مقارنة بأقران اختاروا الطرق اليسيرة، ومن وقفوا في منتصف الطرق، ومن أغرتهم المادة، وأبعدتهم شؤون حياتهم عن هواياتهم النورانية، فتشبث بالحرف والتعلم والكتابة والترجمة، وتبوأ المكانة والمسؤولية في مناصب حكومية ومؤسسات ثقافية، ليس فقط في حدود دولة الكويت، ولكنه ظل شاملا يتنقل بين دول خليج عربي تستقطبه وتراعيه، يطب ويختار، بأفضلية طموحه ونشاطاته وتميزه وأسبقية رؤيته، وتهادي المسميات والجوائز لمغازلته.
الرميحي بعد التخرج عمل معيدا في جامعة الكويت، وتدرج في سلك التدريس ليبلغ درجة الأستاذية، وكان نشاطه مشتعلا لا يتوقف، فأصدر عدداً من الكتب حول التغيرات الاجتماعية والسياسية في الخليج وفي الشؤون العربية، بعضها طُبع أكثر من مرة من دور نشر عربية متأصلة مثل الجديد والساقي من لبنان، ومشعلا فنارات ثقافة الوعي الغنية الكريمة حينها، لتصبح بعض كتبه تُدَرسُ في الجامعات.
كما كلل جليل وجميل أعماله برئاسة تحرير مجلة العربي الكويتية لمدة سبع عشر عاما، وهي المجلة الثقافية المبجلة على مستوى العالم العربي، يتفاخر الكثير من المبدعين العرب بأنهم كانوا من كتابها أو متابعيها، أو مقتني أعدادها في وقت جفاف أوراق عزت فيه قنوات المعرفة والتواصل.
وكعادته في تتبع وتصدر الأعمال الفريدة ترأس تحرير جريدة «صوت الكويت» أثناء الغزو العراقي للكويت، والممولة المرعية المشرف عليها من حكومة الكويت في المنفى، دعما لمقاومة الكويتيين للغزو، وجمع الكلمة وتوحيد الخبر والحقائق.
الرميحي كان واجهات متعددة الصور براقة لمثقفي الكويت، وأصبح ثقافة وطن تحكى، وقد سبق لي في بداياتي أن كتبت في مجلة العربي عدة مقالات ثقافية، رضي عني فيها، ولو أني أجزم بأنه لا يعرفني، ولكنه يظل رئيس تحرير ملهم، محتضن لأي بادرة ثقافية تصدح في أطراف خبايا الشرق.
عشرات الكتب، وآلاف المقالات، وشراكات واستشارات وترؤس مراكز، وعضوية جمعيات ومؤتمرات، وامتداد مسؤوليات تفوق مساحات العمر، حتى ليظن الباحث عن فيض تراثه، بأنه أشخاص كثر انتثروا من أطراف شطوط الفنطاس والفحيحيل والأحمدي إلى شطوط وأعماق المرافئ العربية، يصعب حصرهم.
مؤكد أني حينما أكتب عنه هنا أشعر بالقصور، فلم أذكر عناوين أعماله وكتبه ومحتوياتها، ولم أستعرض ما يوجد في سيرته المنقوشة على واجهات عدة مراكز بحوث، ومؤسسات ثقافية، وصحف وإصدارات ومتاحف عربية، ولكني عاشق صبابة لسيرته، وكنت أتمنى لو أقابله، ليس فقط في زيارة عابرة للأزمنة، ولكن في حوار تاريخي ثقافي سياسي، نفسي، فلسفي، معرفي، أسبر خلاله إنسان الرميحي، المختبئ وسط الظاهرة والجوكر، وأن أتمكن من وضع أصابع قلمي على نقاط غموض عبرها، ومفاصل ألم وروعة أمل، ومخيلة أشرعة « السفَّار، والقطَّاع، والحدَّاق، والغوّاص» بزمن الغوص وطلب اللؤلؤ، والتغني بصوت البحر، وصفقات الموج، ورقصة الغياب والقدوم، بمحورية دراماتيكية خليجية، ظلت تصارع الزيف، وتبلغ وترتقي أزمان البترول، وتجمل حدوث الطفرات، وتعيش المناخ والانتكاسات، وتكتب الحرب والسلام، وتحكي عن المقاومة، وتشحن الأنفس بما ارتسم سياسات لوطن ومثقف.
الرميحي، حالات ووجوه، أنا متأكد بأن العمر الطويل كان خير مسار لها وكان خير إمكانية وتمكن، والكراسي المختلفة تجعل من الممكن للعقل المتفرد والروح الوثابة أن تستعلي على منبر، وأن تترك الشارع يهدر، ويتضح من الأعلى كيف كان الناس، وأين ومتى، وبصور تتباين فيها الشفافية، والغموض والأسرار، وبمحاولة معرفة الكثير مما لا يحكى، خصوصا ممن قابلهم من كبار المسؤولين عربا وأجانب، وكيف كان يحكي، ويخفي، ليحافظ على قوام مساره الطويل، نقيا من العيوب الظاهرة.
صدقوني لو سنحت لي الفرصة بلقاء معه غير تقليدي، لكنت أضفت لمناطق إبداعه كرسيا جديدا ومصباحا، سينير رفا من رفوف أرشيف الثقافة العربية، فالجوكر مهما تمادى في العمر يظل يلعب أدوارا جديدة، وحسب المكان والزمان، ويد وحيلة اللاعب المقابل.
وكلي أمل بتصفح مخطوطات عمر تفوق الثمانين من الوهج، وأمنية للحصول على صدفة محارة كريمة نادرة نسيها بعض من غاصوا معه بأقدام مثقلة بالحبال والصخور، وعادوا يتشوقون أنفاس غوص متجدد.