د. تنيضب الفايدي
تعدّ اللغة أساساً مهماً في بناء الحضارات ووسيلة ضرورية للتعبير والتطور بين البشر، وهي أداة نقل وتسجيل للحياة والأفكار، وهي أداة التفاعل بين أفراد المجتمع والرابطة التي تصهر أبناءه في بوتقة التفاهم والمحبة، وهي مستودع تراث الأمة وجسرها للعبور من الماضي إلى الحاضر، ثم من الحاضر إلى المستقبل، وبها تنتقل ذخائر الفكر والتقاليد والتاريخ والفلسفة والدين من جيل إلى آخر.
هذه اللغات تمثل فكر الأمم وعقول الرجال، وقد قيل:»عقل الرجل مدفون تحت لسانه». فالعقل مخزون وراء البيان، والعقل - كما هو معلوم - هو شرف الإنسان وجاهه، وزينته ومفخرته، وبه يتميز عما سواه من الكائنات. ولذلك يقول أبو الطيب المتنبي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان
وخُصَّت اللغة العربية من بين لغات العالمين بخصائص ومميزات انفردت بها عن غيرها، فسَمَتْ بها عن لغات الدنيا، وأصبحت بينها كالقمر بين الكواكب تتضاءل الأنوار من حولها، وكأنها القطب والكل في فلكها يدور، هناك لغات تغيرت واندرست أخرى، وهي ثابتة في نمو وازدهار، وفيما يلي بعض خصائص ومميزات اللغة العربية تميّزت بها عن لغات الدنيا قاطبة.
1- المترادفات والأضداد:
الترادف من أهم مميزات اللغة العربية، فاللغة العربية فسيحة الآفاق، مترامية الأطراف، وغزارة الألفاظ والمفردات، تتميز بثروة غنية من التعبيرات الدقيقة وامتازت بألفاظ تؤدي إلى فروع المعاني وجزئياتها، كما تمتاز أنها تضم أسماء وصفات كثيرة لشيء واحد، باعتبار الأشكال والحالات والمقادير والأحجام وقد ألّف الإمام اللغوي الثعالبي كتاباً سماه (فقه اللغة وسر العربية) ذكر فيه تلك الكلمات، فمثلاً امرأة لها عدة أسماء حسب ترتيب سن المرأة فهي طفلة ما دامت صغيرة، ثم وليدة إذا تحرّكت، ثم كاعب إذا كعب ثديها ومنها قوله تعالى:(وكواعب أترابا)، ثم ناهد إذا زاد، ثم معصر إذا أدركت، ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الإعصار، ثم خَوْدٌ إذا توسّطت الشباب، ثم مُسْلِف إذا جاوزت الأربعين، ثم نَصَفٌ إذا كانت بين الشباب والتعجيز، ثم شهْلةٌ كهلةٌ إذا وجدت مسَّ الكبر وفيها بقية وجلدٌ ثم شهْبَرَةٌ إذا عجزت وفيها تماسك، ثم حيزبُونٌ إذا صارت عاليةَ السن ناقصة القوَّة، ثم قلَعم ولطْلِطٌ إذا انحنى قدُّها وسقطتْ أسنانُها، وهناك أسماء أخرى لها عدة مترادفات فكلمة السيف له عشرات من الأسماء المترادفة مثل: الصارم، والرداء، والقضيب، والصفيحة، والمفقر، والصمصامة، والكهام, والمشرفي، والحسام، والعضب، والمذكر، والمهند، والصقيل، والأبيض، وللسنة أربعة وعشرون اسماً، وللنور واحد وعشرون اسماً، وللشمس تسعة وعشرون اسماً، وللسحاب خمسون اسماً وللمطر أربعة وستون اسماً، وللماء مائة وسبعون اسماً وللأسد ثلاثمائة وخمسون اسماً وللناقة مائتان وخمسة وخمسون اسماً، وقس على ذلك غيرها فلكل ساعة من ساعات الليل والنهار اسم خاص، وهكذا فالأمثلة في هذا الباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا، ومن يريد الزيادة فليرجع إلى كتابي (شواهد من اللغة العربية في ضوء الاهتمام العالمي بها)، وهي تبين مدى قوة اللغة العربية عن غيرها من اللغات من حيث وجود الكلمات المختلفة تعبر معنى دقيقاً.
أما الأضداد فهو دلالة اللفظ الواحد على معنيين متضادين أو بعبارة أخرى: تسمية المتضادين باسم واحد، وهذا من مميزات اللغة العربية كقول العرب الصريم: لليل والنهار، والسدفة للظلمة والنور والزوج للذكر والأنثى، والبسل للحلال والحرام، والجون للأبيض والأسود، والخيلولة للشك واليقين. وهكذا.
2- الإعراب:
من مميزات اللغة العربية عن اللغات الأخرى الإعراب وهو تغيير الحالة النحوية للكلمات بتغير العوامل الداخلية عليها، فالإعراب من أخص خصائص اللغة العربية وله أهمية بالغة في حمل الأفكار، ونقل المفاهيم، ودفع الغموض، وفهم المراد والتعبير عن الذات، فأنت تقدر تقول: قرأ زيدٌ قرآناً، زيدٌ قرأ قرآناً، وقرآناً قرأه زيدٌ، وكلّ هذا يعطي مفهوماً صحيحاً وذلك بسبب الإعراب فحركات الإعراب تدلّ على المعاني المختلفة. ولهذا نرى أن اللغة العربية هي أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها يبين ذلك، فما من كلام ينقل إلى لغة العرب إلا ويجيء الثاني أخصر من الأول مع سلامة المعاني وبقائها على حالها، وهذه بلاشك فضيلة مشهورة، وميزة كبيرة. ويظهر مما سبق أن الإعراب من مميزات اللغة العربية وبهذه الميزة نزل القرآن الكريم، فله دورٌ كبير في بقاء اللغة العربية بعد ما ضاعت اللغات الأخرى.
3- الاشتقاق:
من المميزات التي تميزت بها اللغة العربية عن اللغات الأخرى الاشتقاق، والاشتقاق في اللغة: أخذ شيء من شيء، ومعنى الاشتقاق خروج الصيغ من أصل واحد، فالاشتقاق من خصائص نادرة تتفوق بها اللغة العربية على لغات العالم أجمع، ففي اللغة العربية يوجد مصدر وتشتق من هذا المصدر اسم الفاعل، واسم المفعول، واسم التفضيل، واسم الزمان، واسم المكان واسم الآلة وغيرها، فكلّ هذه الأسماء والصفات تعود إلى أصل واحد فمثلاً كلمة طير: يشتق منها: طير، طائر، طيارة، طيران، يطير، طيّار، مطار وغيرها، ومثال آخر كلمة كتب يشتق منها: يكتب، كتاب، كتّاب، كاتبة، كاتب، مكتبة، مكتوبة وغيرها.
4- نطق الحروف ومخارجها:
بلغت اللغة العربية منتهى الإعجاز والكمال في مدارجها الصوتية حيث ثبتت بنطق حروفها ومخارجها طوال العصور دون أن يصيبها من السقم والانحدار الداخلي، فاللغة العربية تنفرد بمقوماتها الصوتية مثل الهمس والجهر، والتفخيم والترقيق، والقلقلة واللين والغنة وغيرها، أما مخارج الحروف فتتوزع بين الشفتين إلى أقصى الحلق فبعض الحروف تخرج بين وسط اللسان وطرفه ورأسه، وبعضها تخرج بين جوف الصدر وبين الشفتين والحلق، فتختلف جميعها في المدرج الصوتي اختلافاً واضحاً.
5- دقة التعبير:
من محاسن اللغة العربية دقة التعبير، حيث تعطي كلمة واحدة معنى معيناً يحتاج في اللغات الأخرى سطور حتى تعطي وتبين نفس المعنى، فمن دقة التعبير في اللغة العربية مثلاً: النعاس: هو أن يرغب الإنسان في النوم، والوسن: وهو ثقل الرأس، الترنيق: مخالطة النعاس للعين، الكرى: أن يكون الإنسان بين النوم واليقظة، التغفيق: النوم وأنتم تسمع كلام الناس، الإغفاء: النوم الخفيف، النهويم: النوم القليل،الرقاد: النوم الطويل، الهجود: النوم الغرق، التسبيخ: وهو أشد النوم.