الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يعد الغضب مفتاحاً لكل شر، ومن مداخل الشيطان الكبرى ومكائده العظمى، وقد حذرنا رسولنا الصادق الأمين من الغضب واعتبره منشأ كل فعل سيء، باعتباره مرضاً من الأمراض التي نارها تتلظى في القلوب، وداء من أدواء المجتمع الذي فرَّق كثيراً من الناس، حيث تسبب في قطع الأرحام والعلاقات الإنسانية بين الأشخاص.
وفي حياتنا اليومية المتسارعة أصبح الناس مع الأسف الشديد يغضبون لأتفه الأسباب؛ مما يتوجب التوعية والتذكير بمخاطر الغضب، وعواقبه الوخيمة.
«الجزيرة» التقت عدداً من المختصين في العلوم الشرعية والطبية والتربوية، ليتحدثوا عن تلك السلوكيات، والسبل الكفيلة لاجتثاث حالات الغضب الذي يعد ركناً من أركان الشر، ويورث الحسرة والندامة؛ فماذا قالوا:
مفتاح كل شر
يقول الدكتور محمد بن خالد النشوان عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض: لا أظن أنَّ زمانًا توافرت فيه كثير من أمراض النفوس كزماننا، ولهذا أسباب يطول المقام بذكرها وتعدادها، بيد أنَّ من أهم تلك الأمراض والعوارض النفسية الغضب والانفعال، والغضب وإن كان في أصله استجابة طبيعية لما يتعرّض له المرء من مواقف وأحداث تمرُّ به، ومنه المحمود والمذموم، لكن إرخاء زمام النفس له بلا قيد من أسوأ الأمور وأقبحها.
يقول ابن تيمية: «الغضب في غير موضعه مرض في النفس، والعاقل يُعرض عن أسباب الغضب، ويُجاهد نفسه في دفعه؛ فمن ملك نفسه عند الغضب، ارتقى في درجات الإيمان». ويقول جعفر بن محمد: «الغضب مفتاح كل شر».
ويشير د. النشوان إلى أن الشريعة الغراء أوضحت جملةً من وسائل علاج الغضب وكظمه ومجانبته، ونبّه أهل العلم عليها؛ فمن ذلك: تأمل فضل ترك الغضب وكظمه ودفعه، قال تعالى - منوهًا ببعض صفات المتقين ومثنيًا عليها -: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وكظم الغيظ مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها، فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء.
وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تعدون الصُّرَعَة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعُه الرجال. قال: بل هو الذي يملك نفسه عند الغضب».
ومنها: النظر في مآلات إنفاذ الغضب وعواقبه، قال مورِّق العِجْلي: «ما قلت في الغضب شيئًا إلا ندمتُ عليه في الرضا». ويُروى عن علي - رضي الله عنه -: «أول الغضب جنون، وآخره ندم»، ومنها: منافاة الغضب لأخلاق أهل الفضل، قيل لابن المبارك: اجمعْ لنا حسن الخلق في كلمةٍ، قال: «ترك الغضب». قال أبو حاتم: «لو لم يكن في الغضب خصلة تذمُّ إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له؛ لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب».
قال عنترة:
لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ
وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ
وإذا علم العاقل قبح ذلك، كان شديد الحرص على مجانبة هذه الخلة والبعد عنها، ومنها: استعمال الوسائل الحسية التي تطفئ نار الغضب وتدفعه وتسكنه، كالوضوء، والقعود إن كان قائمًا والاضطجاع إن كان قاعدًا، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وذكر الله -عز وجل-، والسكوت حال الغضب، وغيرها من الوسائل.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الخلق، وأن يقينا شر أنفسنا، ويمسكنا بهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ونسأله كلمة الحق الحق في الغضب والرضا.
أعراض نفسية
يشير الدكتور عزت عبدالعظيم استشاري الطب النفسي بالرياض إلى أن هناك أسباباً عديدة وعوامل كثيرة تؤثر في حالات ودرجات الغضب عند الإنسان مثل: السن والوضع الاجتماعي والثقافي، الظروف الحياتية والمادية المحيطة بالشخص، كما أن المسببات الخارجية للغضب متنوعة منها التعرض للظلم والاضطهاد الديني والعرقي والإحباط الشديد أو الفشل في مجالات الحياة والذل وامتهان الكرامة والفقر والتعرض للعنف والإيذاء البدني والنفسي، اغتصاب الحقوق وسلب الأموال أو هتك العرض والنصب والغش والخداع والخيانة والكذب والنفاق، فإن مثل هذه الأمور بالطبع تثير بركان الغضب داخل النفس البشرية التي تتصف بالعزة والشهامة والغيرة والنخوة والرجولة، حيث إن هذا الغضب يكون حافزاً للدفاع عن النفس والمال والعرض والدين والوطن والأهل والحرية، وهذا النوع من الغضب غالباً ما يكون على المستوى الاجتماعي أو المستوى الفردي، ومن أمثلة ذلك الغضب الشخصي ما كان يحدث للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إذا انتهكت حرمات الله، أو غضب الإنسان العادي إذا تعرض للمواقف سالفة الذكر، كما أن الغضب الجماعي قد يحدث أيضاً رداً على الظلم والحروب والاضطهاد أو أي أسباب سالفة الذكر، ويوجد نوع آخر من الغضب المرضي الذي نعتبره اضطراباً نفسياً وسلوكياً وهو غالياً على المستوى الفردي، وهو ما يحتاج للعلاج النفسي لأنه يكون مصاحباً لبعض الاضطرابات النفسية كأحد أعراض هذا الاضطراب النفسي مثلما يحدث لبعض مرضى القلق والاكتئاب النفسي، وبعض مرضى الفصام والهوس الذهاني وبعض حالات عته الشيخوخة أو الزهايمر أو حالات إدمان المخدرات واضطرابات الشخصية مثل الشخصية السيكوباتية (العدوانية) أو الشخصية غير المتزنة انفعالياً أو بعض مرضى نوبات الصرع خصوصاً الفحص الجبهي أو مرضى الاندفاعات القهرية العدوانية أو بعض مرضى إضرابات الغدد الصماء، خصوصاً الغدة الدرقية، فمع وجود الأعراض النفسية المرضية الخاصة بتلك المرض قد يصاحبها حالات الغضب وسرعة النرفزة، وربما تصل لحالات الهياج والعنف وربما الإيذاء سواء للمريض نفسه أو للآخرين، وهذا يتطلب سرعة العلاج النفسي للمريض حتى وإن كان إجبارياً داخل إحدى مصحات الأمراض النفسية والعصبية المخصصة لمثل هذه الحالات حتى يعود لحالته الطبيعية وحفاظا عليه وعلى المجتمع أيضاً، ويجب أن نعترف بأن حالات الغضب سواء الفردي أو الجماعي أصبحت في ازدياد مستمر ليس هنا أوهناك ولكن على المستوى العالمي، خصوصاً في ظل الصراعات العالمية والعولمة والتكنولوجيا وصراعات الحياة التي يعيشها العالم، وما نراه من حروب وظلم وبطالة وفقر وغلاء أسعار وأزمات وكوارث طبيعية هنا أو هناك والتي تؤثر بالطبع على الهدوء والصفاء النفسي للبشرية جمعاء، مع قلة الدعم والتعاطف الأسري والاجتماعي التي غالباً ما نراها موجات من الغضب سواء كان فردياً أو اجتماعياً.
ترويض الغضب
تقول الدكتورة أمل بنت محمد الرويلي أخصائية طب الطوارئ: من الحق الذي لا مراء فيه أن ضبط النفس عند الاندفاع بعوامل الغضب بطولة لا يستطيعها إلا قوي الإيمان، عالي الهمة، قوي الإرادة، إذ ليس من السهل إذا غضب الإنسان أن يضبط نفسه.. إذا قمت بترويض الغضب من الداخل بضبط نفسي، فسأكتشف أنه لم يعد هناك عدو واحد في الخارج.
وأشارت د. الرويلي إلى آثار الغضب الصحية التي يكون تأثير الغضب على الجسم بالطرق الآتية أيضًا: يؤثر سلبًا على صحة الرئتين؛ إذ إن هرمونات التوتر المرتبطة بنوبات الغضب تسبب زيادة خطر الإصابة بالتهابات الشعب الهوائية، ويرفع من خطر الوفاة المبكرة، وإفراز مواد كيميائية ضارة في الجسم عند الغضب، وتغيّرات في عمليات الأيض، وزيادة إفراز الغدد الكظرية لهرمونات التوتر، مثل: الأدرينالين والكورتيزول، وهذه عوامل تهدم الصحة والعقل.
رسول الله - عليه أفضل الصلاة والسلام - أكثر البشر تعرضاً للأذى، ولكنه صبر على الأذى حتى أصبح رسول الأمة الإسلامية.. كن حليماً وتذكر لا شيء يستحق أن تخسر صحتك من أجله، كما أن للغضب آثاراً اجتماعية، حيث إن الأشخاص الذين يُعانون من الغضب المزمن يفتقرون لتكوين الصداقات، كما أنّ ميلهم للاكتئاب يُقلّل من ظهور أيّة ألفة ومودّة في علاقاتهم مع الآخرين، الأمر الذي يُؤثر سلباً على صحتهم، وذلك لأنّ العلاقات الناجحة تُحافظ على صحة الأشخاص، ومجتمعهم كذلك إذا كان لديه أطفال يورث الغضب والكراهية والحقد في أبنائه ويجعل منهم شخصية محطمة، أما في بيئة العمل فلن يستمر أي شخص يتعاون مع شخص مضطرب وعدواني في تعاملاته، ما ينعكس سلباً على بيئة عمله.
عوامل وراثية
تصف د. منى بنت علي الحمود الاختصاصية التربوية الغضب بأنه حالة شعورية طبيعية بلا شك كغيره من المشاعر الأخرى، وهو أحد المشاعر الإنسانية الأساسية كالحزن والألم والفرح وغيرها، والدافع الكامن خلف الغضب هو دخول الذات في حالة من الاستياء، والمفارقة هنا أن الذات البشرية قد ينتابها الاستياء من الآخر أو من ذاتها، فيظهر الغضب كردة فعل تلازمية لهذا الاستياء، وموضوع الغضب كما يراه العديد من الفلاسفة والمفكرين هو أمر طبيعي، بل وحافزاً على التغير والتقدم والإنجاز أحياناً، غير أن الأهم هو تصريف هذه العاطفة بطريقة إيجابية فاعلة، وفي حالات عدة يكون الغضب سلبياً، إذا ما انعكست آثاره بشكل مبالغ فيه على الآخر أو على الذات إذ قد يتسبب الغضب في العديد من الخسائر النفسية والجسمية، غير أن التحكم فيه وتوجيهه بطريقة إيجابية قد يساهم في دفع الكثير من الضرر وتحقيق العديد من المصالح، غير أن الأخيرة قد ترجع لعوامل وراثية، وأيضاً لعوامل مكتسبة وهذا بلاشك يتطلب الكثير من التريض على التعامل مع الغضب والتفكير بالحلول أكثر من المشكلة ذاتها، فالغضب عاطفة بشرية قوية ترتبط بالألم والإحباط وإن لم يتم التعامل معها بحكمة قد تكون عواقبها مدمرة.