د. غالب محمد طه
إن المتأمل في التحول التكنولوجي السريع الذي يشهده العالم في الوقت الراهن يلاحظ تزايد التهديدات السيبرانية بشكل غير مسبوق، خاصة في المنطقة العربية. هذا الواقع يثير العديد من التساؤلات: هل نحن مستعدون بالفعل لمواجهة هذه التهديدات التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم؟ وكيف يمكننا تأمين فضائنا الرقمي العربي وحمايته من الهجمات المتزايدة؟
في مقالاتنا السابقة بعنوان «الرياض: مركز الأمن السيبراني العربي» و»الرياض في صدارة الأمن السيبراني العربي»، تناولنا الدور البارز للمملكة العربية السعودية في تعزيز الأمن السيبراني على المستوى العربي والإقليمي.
اليوم، نكمل هذا الطرح لنستعرض تفاصيل الإستراتيجية العربية للأمن السيبراني ودور مجلس وزراء الأمن السيبراني العرب، الذي يمثل خطوة أساسية نحو توحيد الجهود العربية لمواجهة التهديدات الرقمية وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء.
شهدت السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في الهجمات السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية الرقمية في العديد من الدول العربية، وكشفت هذه التهديدات عن الحاجة الملحة لتكامل الجهود العربية في مواجهة تحديات الأمن السيبراني. ومن هذا المنطلق، تم إطلاق الإستراتيجية العربية للأمن السيبراني من قبل جامعة الدول العربية في يونيو 2024، لتكون خارطة طريق شاملة تهدف إلى بناء فضاء رقمي آمن ومستدام.
تعتبر مبادرة تأسيس مجلس وزراء الأمن السيبراني العرب خطوة محورية لدعم هذه الإستراتيجية. يشكل المجلس منصة موحدة لتطوير سياسات جماعية لمواجهة التهديدات الرقمية، مع التركيز على تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء وتبادل الخبرات وتطوير حلول مبتكرة لحماية البنية التحتية الرقمية وتأمين البيانات الحساسة. في الدورة الأولى للمجلس، تم استعراض التهديدات السيبرانية التي تواجه المنطقة، مما أكد أهمية توحيد الجهود لمواجهة هذه التحديات المشتركة.
وتعتبر إشارة معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية، السيد أحمد أبو الغيط، إلى أهمية التعاون العربي المشترك في مجال الأمن السيبراني خطوة محورية نحو بناء منظومة متكاملة لمكافحة التهديدات الرقمية المتزايدة.
في الدورة الأولى للمجلس، تم اتخاذ قرارات إستراتيجية مهمة، مثل بدء العمل على إعداد الإستراتيجية العربية للأمن السيبراني، وتعيين الأمين العام وأعضاء المكتب التنفيذي، بالإضافة إلى تنظيم تمارين سيبرانية إقليمية. إن هذه القرارات تشير إلى إرادة عربية موحدة لمواجهة التحديات المستقبلية، ومن المتوقع أن تسهم في تعزيز التعاون الفعّال بين الدول الأعضاء، مما سيعزز من جاهزية المنطقة في مواجهة التهديدات الرقمية ويُؤسس لأسس الأمن السيبراني المستدام في العالم العربي. إضافة إلى ذلك، أقر المجلس مجموعة من المبادرات العملية التي تهدف إلى تعزيز الجاهزية الإقليمية.
من أبرز هذه المبادرات: إعداد إستراتيجية تنفيذية مشتركة تشمل إجراءات وقائية وآليات للتعامل الجماعي مع الهجمات السيبرانية، وتنظيم تمارين سيبرانية إقليمية لمحاكاة الهجمات الرقمية بهدف تحسين جاهزية فرق الدفاع السيبراني في الدول الأعضاء، كما تم الاتفاق على إنشاء قاعدة بيانات مشتركة للهجمات السيبرانية لتبادل المعلومات والتعلم من التجارب السابقة، وهي خطوة أساسية لتعزيز التعاون الفعّال بين الدول العربية في مواجهة التهديدات السيبرانية.
يعد القطاع الخاص جزءًا أساسيًا في بناء البنية التحتية الرقمية الآمنة. ولذلك، من الضروري إشراكه في تطوير حلول مبتكرة للتصدي للتهديدات السيبرانية، على الجانب الآخر، تلعب المؤسسات الأكاديمية دورًا حيويًا في إعداد كوادر بشرية متخصصة قادرة على مواكبة التحديات المتزايدة في هذا المجال، يشكل بناء قدرات بشرية مؤهلة أحد الأسس الجوهرية التي تضمن استدامة الجهود في مجال الأمن السيبراني.
الدراسات تشير إلى أن نسبة كبيرة من الهجمات السيبرانية تحدث بسبب الأخطاء البشرية، مثل استخدام كلمات مرور ضعيفة أو التفاعل مع رسائل إلكترونية احتيالية، مما يعزز الحاجة إلى رفع مستوى الوعي السيبراني بين المواطنين. يسعى المجلس إلى إطلاق حملات توعية لتعزيز الوعي الأمني الرقمي بين مختلف فئات المجتمع.
تتماشى جهود مجلس وزراء الأمن السيبراني العرب مع أهداف رؤية المملكة 2030 التي تركز على بناء اقتصاد رقمي مستدام يعتمد على بنية تحتية رقمية آمنة. فالأمن السيبراني لا يعدّ فقط ركيزة أساسية لتحقيق التحول الرقمي، بل هو عنصر أساسي في تمكين الاقتصاد الرقمي من النمو والازدهار. ومن خلال تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء، يمكن للمجلس أن يسهم بشكل فعّال في تحقيق هذه الرؤية، سواء من خلال دعم الاستثمارات في قطاع الأمن السيبراني أو تطوير الكوادر البشرية المتخصصة. هذا التوجه الاستراتيجي يتماشى مع ما يشير إليه يوجين كاسبرسكي، الرئيس والمؤسس لشركة «كاسبرسكي»، الذي يرى أن تقدم السعودية الكبير في اقتصادها الرقمي يمكّنها من ترسيخ مكانتها كواحدة من أكثر الدول تقدّمًا في المنطقة، مما يعزز دورها في الساحة العالمية. ويعكس استثمار المملكة في المواهب المحلية وبناء القدرات هذا التوجه، ليكمل مساعيها في بناء بنية تحتية رقمية آمنة.
إن نجاح المبادرة العربية في مجال الأمن السيبراني يعتمد على الإرادة الجماعية والقدرة على العمل المشترك بين الدول العربية لتحقيق بيئة رقمية آمنة ومستدامة. مع التهديدات السيبرانية المتزايدة، تبرز أهمية تعزيز التعاون الإقليمي، وتطوير القدرات البشرية والتقنيات الرقمية، وهو ما سيمكننا من بناء أسس قوية للأجيال القادمة. يبقى الأمل معقودًا على نجاح الرؤية العربية الموحدة في الأمن السيبراني، وأن تتحقق هذه الرؤية على أرض الواقع عبر تضافر الجهود من الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع الأكاديمي. وبذلك، لا يقتصر النجاح على حماية المعلومات فحسب، بل يتعداه إلى ضمان استدامة النمو الرقمي وتحقيق رفاهية الأجيال القادمة في بيئة رقمية آمنة، تشكل أساسًا لتحولات اقتصادية واجتماعية مستدامة في المنطقة.