عبدالله صالح المحمود
في خضم التحولات السريعة التي يشهدها عالم الأعمال باتت المؤسسات تواجه تحديات متزايدة في الحفاظ على أفضل مواهبها؛ فالاقتصاد المعرفي والطلب المتزايد على الكفاءات جعل المنافسة شرسة، ليس فقط في جذب المواهب، بل في الاحتفاظ بها. ولأن الموظفين المميزين لا يقدرون بثمن، فإن خسارتهم تمثل تهديدًا جوهريًا لقدرة المؤسسات على تحقيق أهدافها الإستراتيجية.
أصبحت الاستقالات المفاجئة والتسرب الوظيفي بين صفوف الموظفين ذوي الأداء العالي ظاهرة شائعة، ويمكن أن تُعزى في كثير من الأحيان إلى سوء الإدارة أو عدم تلبية توقعات الموظفين من حيث التقدير المادي والمعنوي.
وفي عالم الشركات، نسمع عن قصص عديدة لموظفين مميزين يتلقون عروضًا مغرية فقط عندما يقدّمون استقالاتهم. أحد الأمثلة الشهيرة في هذا الصدد هو ما حدث في قطاع التكنولوجيا، حيث استقال أحد الموظفين البارزين في شركة ناشئة بعد سنوات من عدم حصوله على أي زيادة سنوية، على الرغم من جهوده المتميزة. بعد استقالته، قدّمت له الإدارة عرضاً مغرياً يتضمن زيادة كبيرة في راتبه وامتيازات إضافية، لكن كان الوقت قد فات. كان قد وقع بالفعل مع شركة منافسة تقدّر جهوده بشكل أفضل منذ البداية.
هذا المثال ليس حالة فردية. إنه يعكس واقعاً متكرراً في الكثير من المؤسسات. بدلاً من اتخاذ خطوات استباقية لتقدير الموظفين والاعتراف بجهودهم، تتحرك بعض الإدارات متأخرة جدًا، فتخسر بذلك أحد أهم أصولها: مواردها البشرية المميزة.
والموظفون المتميزون لا يبحثون فقط عن الرواتب، بل يسعون إلى بيئة عمل تدعم تطورهم المهني والشخصي. قد يغادر الموظف شركته ليس فقط لأنه يبحث عن راتب أعلى، ولكن لأنه يشعر بالإهمال أو بعدم تقدير مجهوده.
أظهرت الدراسات أن العاملين الذين يشعرون بأن إنجازاتهم تذهب دون اعتراف أو تقدير حقيقي هم الأكثر عرضة للتفكير في الانتقال إلى مكان آخر. من هنا، يتعين على القادة أن يُدركوا أن تقديم زيادات مالية متأخرة بعد قرار الاستقالة لن يغيّر من الأمر شيئًا. ما يحتاجه الموظف هو الإحساس بالتقدير المستمر، وليس التعويض المالي المفاجئ بعد فوات الأوان.
إن القيادة الإدارية الفعالة تذهب إلى أبعد من مجرد إدارة العمليات اليومية. يجب على القادة أن يتواصلوا بانتظام مع الموظفين لتفهم طموحاتهم وتقديم الدعم اللازم لتحقيقها. هذا يمكن أن يشمل فرص التطور الوظيفي، التدريب، وحتى خلق مسارات مهنية جديدة داخل المؤسسة. الموظفون المتميزون غالباً ما يكون لديهم طموحات كبيرة، وإذا لم يجدوا الفرصة لتحقيقها داخل المؤسسة، سيتجهون للبحث عن تلك الفرص في مكان آخر.
على سبيل المثال، إحدى الشركات العالمية المعروفة قامت ببناء بيئة عمل مشجعة حيث يُمنح الموظفون حرية الإبداع والتطوير المستمر. هذه البيئة ساعدت الشركة على الاحتفاظ بأفضل مواهبها على مدار سنوات، رغم عروض مغرية تلقاها موظفوها من منافسين.
على أن التواصل الفعال بين الإدارة والموظفين هو عنصر أساسي في بناء علاقة متينة قائمة على الثقة. القادة الناجحون هم من يستثمرون في بناء هذه العلاقات منذ اليوم الأول. لا يكفي أن يتم التواصل فقط في أوقات الأزمات أو عند تقديم العروض التنافسية. يجب أن يكون الحوار مفتوحًا ودائمًا، مع التركيز على تطلعات الموظف واحتياجاته.
عندما تكون الإدارة على دراية بما يحتاجه الموظفون يمكنها اتخاذ خطوات استباقية للتأكد من أنهم يشعرون بالتقدير والدعم. الشركات التي تُدير فرقها بهذه الطريقة تقلل بشكل كبير من خطر الاستقالات المفاجئة، وتخلق بيئة عمل مستدامة ومثمرة.
ولحل هذا التحدي، يجب على المؤسسات تبني استراتيجيات تركز على التقدير المستمر وتحفيز الموظفين بطرق تتجاوز الرواتب. من بين هذه الحلول:
1 - الزيادات الدورية بناءً على الأداء: تقديم زيادات سنوية مستحقة وشفافة تمنح الموظف شعورًا بأن جهوده تُقدّر وتُكافأ.
2 - فرص التطوير المهني: الاستثمار في تدريب الموظفين وتطويرهم يفتح أمامهم فرصًا للنمو الوظيفي داخل المؤسسة نفسها، ما يُقلل من رغبتهم في البحث عن فرص خارجية.
3 - الثقافة التنظيمية: بناء بيئة عمل مشجعة تعزز من التعاون والإبداع، وتخلق ثقافة تقدير تدعم الموظف على المدى الطويل.
وفي النهاية، الحفاظ على الموظفين المتميزين يعتمد على قدرة المؤسسات على اتخاذ خطوات استباقية لتلبية احتياجاتهم. المؤسسات الناجحة هي تلك التي تبني علاقات متينة مع موظفيها، وتستثمر في تحفيزهم وتطويرهم باستمرار، قبل أن يفكروا في المغادرة. التقدير المستمر والتواصل الفعّال هما المفتاح في عالم تنافسي لا يرحم من يتأخر.