عبدالرحمن الحبيب
إذا كان موقع جامعة أكسفورد اختار كلمة «تعفن الدماغ» (brain rot)» لوصف عام 2024، نتيجة الإفراط في استهلاك المواد خاصة المحتوى عبر الإنترنت التي تعتبر تافهة أو غير محفزة للتحدي الذهني، فإن الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو في كتابه «والدن» قبل 170 عاماً كان أول من سجل استخدام مصطلح «تعفن الدماغ»، الذي يروي تجاربه في العيش بأسلوب حياة بسيط في العالم الطبيعي..
وكجزء من استنتاجاته، ينتقد ثورو ميل المجتمع إلى التقليل من قيمة الأفكار المعقدة، أو تلك التي يمكن تفسيرها بطرق متعددة، لصالح الأفكار البسيطة السطحية، ويرى في هذا مؤشراً على تراجع عام في الجهد العقلي والفكري: «بينما تسعى إنجلترا إلى علاج تعفن البطاطس، فهل لن تسعى أي محاولة لعلاج تعفن الدماغ، الذي ينتشر على نطاق أوسع وأكثر فتكًا؟»
المصطلح خمد طويلاً، ليستفيق في العصر الرقمي، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي، وسط مخاوف مجتمعية بشأن التأثير السلبي للإفراط في استهلاك المحتوى عبر الإنترنت.
وقد حذر إيرل ميلر، عالم الأعصاب والانتباه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عام 2022 من أننا نعيش الآن في «عاصفة مثالية من التدهور المعرفي». وقد وجدت الدكتورة جلوريا مارك، أستاذة المعلوماتية في جامعة كاليفورنيا ومؤلفة كتاب «مدى الانتباه»، أدلة على مدى تراجع قدرتنا على التركيز بشكل كبير.. ففي عام 2004، وجد فريقها من الباحثين أن متوسط مدى الانتباه على أي شاشة هو 150 ثانية، وفي عام 2012، كان 75 ثانية، وقبل ست سنوات، انخفض إلى 47 ثانية.. وقالت في بودكاست في عام 2023: «هذا شيء أعتقد أنه يجب أن نكون قلقين للغاية بشأنه كمجتمع». في عام 2018، توصلت دراسة لعشر سنوات من البيانات التي حللها علماء النفس المتخصصون في الذاكرة بجامعة ستانفورد إلى أن الأشخاص الذين يتفاعلون بشكل متكرر مع منصات متعددة عبر الإنترنت يعانون من انخفاض في الذاكرة ومدى الانتباه.
في السنوات الأخيرة، وجدت وفرة من الأبحاث الأكاديمية من مؤسسات بما في ذلك كلية الطب بجامعة هارفارد وجامعة أكسفورد وكلية كينجز لندن أدلة على أن الإفراط في استخدام الإنترنت والإدمان عليه يتسبب في انكماش المادة الرمادية وهي نوع أساسي من الأنسجة في الدماغ والحبل الشوكي، تلعب دورًا مهمًا في الوظائف العقلية والذاكرة والعواطف والحركة، يؤدي انكماشها إلى تقصير فترات الانتباه، وإضعاف الذاكرة وتشويه عملياتنا المعرفية؛ وقد تبين أن مناطق الدماغ التي تأثرت تشمل «قدرات الانتباه»، حيث يشجع التدفق المتطور باستمرار للمعلومات عبر الإنترنت على توزيع انتباهنا عبر مصادر إعلامية متعددة تؤثر في «عمليات الذاكرة» و»الإدراك الاجتماعي».
مثل هذه التحذيرات سبق أن أطلقت، فقبل أكثر من نصف قرن (1971) انتبه عالم النفس الاقتصادي هربرت سيمون لظاهرة كثرة المعلومات وضعف التركيز عندما كتب عن ندرة الانتباه في زمن انفجار المعلومات: «في عالم غني بالمعلومات، فإن ثروة المعلومات تعني ندرة في شيء آخر: ندرة كل ما تستهلكه هذه المعلومات. ما تستهلكه المعلومات واضح إلى حد ما: فهو يستحوذ على انتباه متلقيها. ومن ثم فإن ثروة المعلومات تخلق فقرًا في الانتباه والحاجة إلى تخصيص هذا الانتباه بكفاءة بين الوفرة الزائدة لمصادر المعلومات التي قد تستهلكه».
وقبل أن تجلب الهواتف الذكية الإنترنت إلى أطراف أصابعنا، تم التنبؤ بتعفن الدماغ منذ ما يقرب من 20 عامًا عندما درس العلماء آثار اختراع جديد يسمى «البريد الإلكتروني»، وتحديدًا التأثير الذي قد يخلفه وابل لا هوادة فيه من المعلومات على أدمغة المشاركين. والنتائج؟ كان للحمل الزائد المعرفي المستمر تأثير سلبي هائل، حيث انخفض معدل ذكاء المشاركين بمعدل 10 نقاط.
هل يبدو في هذه النتائج شيء من المبالغة أم أنها منوطة فقط بمدمني وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت ذات المحتوى السطحي والمعلومات المتناقضة والمتغيرة باستمرار؟
كان يقال ثورة المعلومات، ثم انفجار المعلومات، والآن صار يقال تسونامي المعلومات أو «عالم مجنون من المعلومات» كما وصفها آدم براندنبورغر (جامعة نيويورك).. يقول جوي نوفيك: «المعلومات في العالم تتضاعف كل يوم. أما الذي لم تخبرنا به هو أن حكمتنا تنخفض إلى النصف بنفس الوقت» أو كما يقال: «المعلومات تزيد والمعرفة تقل».
وسائل التواصل الاجتماعي كرأس حربة تسونامي المعلومات والأخبار، حاملة راية «الترند» كل يوم لحدث كبير عالمي أو إقليمي أو محلي يكون هو حديث تلك الوسائل وبعد يوم يغدو قديماً ثم ينسى أما بعد أسبوع فلا أحد يتذكره كأنه لم يكن أو كأنه حدث في زمن بعيد.. فلا تكاد تستوعب الحدث المدوي حتى يأتيك حدث آخر، وما يأتي سريعاً يذهب سريعاً.. «ثمّة رابط سرّي بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان» كما جاء في رواية «البطء»، للروائي ميلان كونديرا.
لم يعد كثرة النسيان وضعف الذاكرة مقتصراً على كبار السن كما كان سابقا، بل أصبحنا نرى شبابا وشابات في عمر الزهور يفوقون الكهول في النسيان.. يبدو أن مخزن الذاكرة لم يعد يتسع لشلالات من الأخبار والتحليلات والمعلومات التي تنهمر علينا جميعا، وإن كانت على الشباب أكثر.