أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
ترتبط قراءة المعالم الجغرافية لصحاري جزيرة العرب في الموروث الأدبي الصحراوي فكرا ومحتوى بنظم البيئة الطبيعية لهذه الجزيرة والجذور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والآداب الوجدانية والعاطفية الأخلاقية المحلقة للعربي الذي سكن هذه البوادي ومشى على أديمها بعزيمة واقتدار حافي القدم متأبطاً تجارب ماضيه المجيد ليستشرف مستقبلاً يراوح بين ترسيخ سمات ذاته العربية وتعزيز سمت هويته الصحراوية. وهي قراءة في المقابل توظف أيضا الموروث الأدبي لاستقراء طبيعة حراك سكان هذه الصحاري الذين صالوا وجالوا في حماها مسطرين عبر التاريخ فخرهم واعتدادهم بها أبداً ما استطاعوا نثراً وشعراً ونقشا على الحجر وأثرا لا انفكاك عنه جغرافياً وتاريخياً وأثنوجرافيا. وتتنوع بطبيعة الحال أنماط محتوى هذا الموروث الأدبي الصحراوي الذي حٌفِظَ عبر الزمن نثرا وشعرا وقصصا وروايات ونحوها في متونٍ وتصانيفٍ دَوَّنَ النابهون من أبناء هذه الصحاري فيها ما جادت به قريحتهم من فن المقال وما باحت به سريرتهم من فخرٍ بمجد صحاريهم وتغزلٍ بأديمها أديم العز والشرف والكرم والجود والدهاء وحصافة الرأي ومحاسنه. وليس لدي أدني شك أن جغرافية صحاري جزيرة العرب قد أثَّرَت بشكل فاعل في طبيعة مسار الموروث الأدبي الذي عكس فيه النثار والشعراء من سكان هذه الصحاري على وجه الخصوص طبيعة تفاعلهم مع الأحداث التي عاشوها وعايشوها متجاوزين بأعجوبة حواجز زمكتنها بحلوها ومرها وحرها وقرها وحلهم وترحالهم وفرحهم وترحهم وفقرهم وغناهم وسلمهم وحربهم. ويعد شعر الصحراء بطبيعة الحال من أكثر القوالب الأدبية التصاقا بابن هذه الجزيرة بل ويمثل قاعدة معلوماته البلدانية الثرة وديوان معارفه الجغرافية الطبيعية والبشرية والاثنوجرافية والتاريخ – آثاريه الثرية ذات الأطياف الزمكانية المقيسة والوجدانية التخيلية المحلقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر تعد اشعار الحطيئة وامرئ القيس وأوس بن حجر والنابغة وزهير وطرفة بن العبد وعنترة والاعشى وزهير بن سلمى وذي الرمة ومن بعدهم من شعراء صدر الإسلام والعهدين الأموي والعباسي تحديداً نماذج حيوية صارخة تعكس طبيعة السمت الجغرافي لصحاري جزيرة العرب وسماتها المتجددة في الزمان والمكان. ففي الشعر رصد بعض أولئك الشعراء الآنف ذكرهم جلَّ نتائج مشاهداتهم لطبيعة أرض صحاريهم وتقلبات أحوالها بل واشتقوا من استقراءاتهم المستمدة من تجاربهم الادراية الحسية لطبيعة البيئة الصحراوية وقدراتهم الفكرية التبويبية والتصنيفية والقياسية والتعميمية عشرات الأسماء المترادفة وغير المترادفة للصحراء كالقفر والمفازة والفلا والديمومة والبيداء والتيهاء وغيرها من الأسماء التي حفظتها مدونات الشعر ومصنفاته ودواوينه. ويعد فقه اللغة وسر العربية للثعالبي، والإفصاح في فقه اللغة الذي حققه الصعيدي، ومعجم مقاييس اللغة للرازي الذي حققه هارون، ومعجم لسان العرب الذي جمع فيه ابن منظور أمهات كتب اللغة من أهم المؤلفات التي حَفِظَت كمَّاً هائلا من الموروث العربي اللغوي بل وصنفت في الوقت نفسه الدلالات والمعاني والصفات الواردة في اللغة العربية. كما تم حِفظُ بعض أنماط الموروث العربي الأدبي لهذه الجزيرة وخاصة الشعر منه في عدد آخر لا حصر له من المؤلفات من مثل طبقات فحول الشعراء لابن سلام والبيان والتبيُّن للجاحظ والشعر والشعراء لابن قتيبة والأغاني للأصفهاني والفهرست لابن النديم والمزهر في علوم اللغة للسيوطي. ومما يثلج الصدر ان نجد زخما من عيون شعر الصحراء مكنونا أيضاً في بعض أمهات كتب السير والتفسير والحديث والتاريخ والرحلات والتدوين البلداني كالمعاجم الجغرافية ونحوها. ولعله من المناسب في هذه المرحلة من المقال عرض مختاراتٍ من بعض المتون الشعرية ذات العلاقة بالصحراء حسب ما تسمح به المساحة المخصصة لهذا المقال. وابدأ هذه المختارات بأبيات من مطلع قصيدة امرئ القيس التي بكى واستبكى فيها الصحب على الطلل وعلى ذكري حبيبته ومنازلها الواقعة بسقط اللوى بين الدخول فحومل واصفا بعر الارام بحب الفلفل المنثور في عرصات تلك الصحراء وقيعانها فقال:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوْضِحَ فَالمِقْرَاةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَا
لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصَاتِهَا
وَقِيْعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُل
كَأَنِّيْ غَدَاة البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا
لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
أما عنترة العبسي فوقف في البيداء مخاطباً الطلول ومناديا عبلة وكله امل ان تجيب ديارها نداءه فقال:
قِف بِالدِيارِ وَصِح إِلى بَيدَاها
فَعَسى الدِيارُ تُجيبُ مَن ناداها
دارٌ يَفوحُ المِسكُ مِن عَرَصَاتِها
وَالعودُ والنَدُّ الذَّكِيُ جَناها
دارٌ لِعَبلَةَ شَطَّ عَنكَ مَزارُه
ونَأَت لَعَمري ما أَراكَ تَراها
ما بالُ عَينِكَ لا تَمُلُّ مِنَ البُكا
رَمَدٌ بِعَينِكَ أَم جَفاكَ كَراها
يا صاحِبي قِف بِالمَطَايا ساعَةً
في دارِ عَبلَةَ سائِلاً مَغناها
ولعنترة قصيدة شهيرة أخرى خاطب فيها عبلة محدداً ديارها بالجواء ومبيناً بعد مسافة دياره عنها بالحزن فالصمان فالمتثلم فقال:
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهم
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
فَوَقَفتُ فيها ناقَتي وَكَأَنَّها
فَدَنٌ لِأَقضِيَ حاجَةَ المُتَلَوِّمِ
وتحل عَبَلة بالجَواءِ واهلنا
بالحَزنِ فالصَمّانِ فالمُتَثَلمِ
إلى أن قال عنترة في موضع آخر من قصيدته واصفا ًروضة تامة من كل شيء بعيدة عن الناس ذات نبات صاف نقي تستقبل امطار السحاب الذي ينصب اول الربيع فيجري دون ان ينتهي مخلفاً في الوقت نفسه بركاً من ماء ذي بريق كالدراهم:
أو رَوضَةً أُنُفاً تَضَمَّنَ نَبتَها
غَيثٌ قَليلُ الدِمنِ لَيسَ بِمَعلَم
أجادَت عَليهِ كُلُّ بِكرٍ حُرَّةٍ
فَتَرَكنَ كُلَّ قَرارَةٍ كَالدِرهَمِ
سَحّاً وَتَسكاباً فَكُلَّ عَشِيَّة
يَجري عَلَيها الماءُ لَم يَتَصّرم
ولزهير بن سلمى ابيات يذكر فيها منازل محبوبته سلمى التي درست وما زالت الصحراء تحتفظ بما درس واندثر منها فيقول:
لسَلمى بِشَرقِيِّ القَنانِ مَنازِلُ
رَسمٌ بِصَحراءِ اللُبَيَّينِ حائِلُ
عَفا عامَ حَلَّت صَيفُهُ وَرَبيعُه
وَعامٌ وَعامٌ يَتبَعُ العامَ قابِلُ
إلى أن قال في القصيدة نفسها واصفاً رمال الدهناء وهي تقطع وسط تلك الصحراء:
نَشَزنَ مِنَ الدَهناءِ يَقطَعنَ وَسطَها
شَقائِقَ رَملٍ بَينَهُنَّ خَمائِلُ
كما أن لزهير رائعة أخرى أبدع في بيت منها واصفاً حال الصحراء التي أسماها البيداء فقال:
وَبَيداءَ تيهٍ تَحرَجُ العَينُ وَسطَها
مُخَفِّقَةٍ غَبراءَ صَرماءَ سَملَقِ
كما أطلق ذو الرمة ايضاً لفظة البيداء على الصحراء فقال:
وَبَيداءَ مِقفارٍ يَكادُ اِرتِكاضُها بِآلِ
الضُحى وَالهَجرِ بِالطَرفِ يَمصَحُ
كما وصف ذو الرمة حاله في الدهناء مع النوق والإبل في مراعيها فقال:
تحنُّ إلى الدَّهْنا بخَفَّانَ ناقتي
وأنَّى الهوى مِنْ صوتها المُتَرَنِّمِ
إلى إِبلٍ بالزُّرْقِ أوطانُ أهلها
يَحُلُّون منها كلَّ علياءَ معْلَمِ