د.عبدالله بن موسى الطاير
بعد الحرب العالمية الثانية تسلمت الولايات المتحدة الأمريكية ملف الشرق الأوسط من الإمبراطورية البريطانية؛ لم يعن التحالف الأمريكي البريطاني لهزيمة هتلر أن الساسة والذاكرة الأمريكية قد تجاوزوا الرواسب التاريخية والأحقاد العميقة على الإمبراطورية البريطانية، كما أن النخب الأمريكية لم تخف يوماً كراهتها للتاج البريطاني. هذا الشعور ولّد عداوة ضد الملكيات انسحبت على أنظمة الحكم الملكية في الشرق الأوسط، ولذلك عزمت أمريكا على إعلان وجودها بتغييرات جذرية وقلب أنظمة الحكم الملكية المترهلة حينئذ. كادت أمريكا أن تعلن عن ولادة توجهها الأول في العراق بتدبير انقلاب على الملك فيصل الثاني، ملك العراق، إلا أن الملك عبد العزيز عارض التوجه بشدة. لم يقتنع الأمريكيون بالبقاء الصامت، فتوجهت مخططاتهم إلى سوريا، ومع أنها كانت جمهورية في ذلك الوقت، إلا أن أمريكا نجحت في تدبير انقلاب مارس 1949م، وهو الانقلاب الذي فتح أبواب الجحيم على السوريين حيث بلغ عدد الانقلابات عشرين انقلابا حتى عام 1970م. عاودت أمريكا الكرة على الأنظمة الملكية فكان انقلاب الضباط الأحرار في مصر عام 1952م، والانقلاب على إمام اليمن عام 1962م، وعلى ملك ليبيا عام 1969م، وفي عام 1979م كان الانقلاب على الشاه في إيران.
لماذا أجتر الماضي؟ لأن هناك قناعة أمريكية على المستوى الإستراتيجي بخطأ حدود سايس بيكو، وأنها السبب في حمام الدم الذي أغرق الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الثانية. تدفع أمريكا في هذا الصدد ببديل صنع في أمريكا، ولذلك فإنه لن يكون من المستغرب تجريب حلول في الشرق الأوسط، وإعادة توزيع الدول وفق المكونات العرقية والطائفية، على اعتبار أنها ستكون كانتونات أكثر تماسكا في داخلها، وسينتفي عامل المظلومية التاريخية الذي يؤجج الصراع بين المكونات السياسية، والخارج.
المخاوف من المجهول القادم لا تتهدد الشرق الأوسط فحسب، وإنما تعيش أوروبا حالة هلع من المد اليميني الوطني المتطرف القادم عبر الأطلسي. فوزير إعلام النظام العالمي المحافظ إيلون ماسك يقصف صبحاً وعشياً في سياسيي وسياسات أوروبا وبخاصة بريطانيا، وهناك عداء مستحكم بين القادمين الجدد إلى البيت الأبيض وبين الليبرالية واليسار الغربي عموما. ولذا فإن دعم الأحزاب والأجندات اليمينية الأوروبية سيكون غير مشروط، والنفخ في إيديولوجية استعلاء العنصر الأبيض ستكون عنوان المرحلة، وإذكاء خطاب الكراهية ضد المختلف لوناً وعرقاً وديناً سيفتح المجتمعات الغربية على احتمالات لا منتهية من الفوضى وعدم الاستقرار.
يزعم مالك منصة X أنه أسهم بفاعلية في وصول الرئيس ترامب والحزب الجمهوري إلى السلطة، ولذلك فإنه لن يتوان في دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا على حساب الاستقرار الداخلي لدول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. بالطبع هناك فارق بين الشرق الأوسط في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وبين الأنظمة الديموقراطية الراسخة في الغرب الأوروبي، إلا أن قضايا الاقتصاد والهجرة تحديدا توغر قلوب الشباب الأوروبي الذي يعتقد أن ساسته فرطوا في المكتسبات الوطنية من أجل العولمة وحقوق الإنسان، وأنه آن الأون لتكون أوروبا عظيمة لمواطنيها البيض مجدداً. يستطيع إيلون ماسك توسيع الفجوة بين النخب الحاكمة في أوروبا وبين الشباب الناقم على السياسيين التقليديين، والمتطلع لتغييرات جوهرية أساسها الاقتصاد والمحافظة على العرق الأبيض والهوية المسيحية. شبكات التواصل الاجتماعي المتحكم فيها أمريكيا قادرة على خلخلة العقل الجمعي الأوروبي، وإعادة تشكيل القناعات وترتيب الأولويات، واجتياح البيئة السياسية الراكدة، وإذكاء شرر الوطنية المتطفرة، والعنصرية والاستعلاء الأبيض، وبالتالي إنتاج أحزاب وقادة متطرفين جدد مدعومين على مستوى القواعد الجماهيرية الشابة.
لا أدري ما إذا كانت فترة الرئيس ترامب كافية للملمة ما ستبعثره في أوروبا وكندا، أم أنها سترسم ملامح المستقبل، وفق الأجندة اليمينية المتطرفة، وبالتالي تؤسس لظاهرة لا يمكن التنكب عنها حتى مع عودة الديمقراطيين للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. الكل سيراقب المستهدفات المتحققة، وبخاصة على الصعيد الاقتصادي، وسيرصد عن كثب الوعود والتهديدات التي أعلن عنها الرئيس ترامب، وسيتبين بعد مدة ليست بالطويلة ما إذا كانت مجرد خطابات شعبوية منفصلة عن التطبيق، أم أن التغيير سيكون حقيقياً، وله إحداثياته على الأرض.