أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
إضافة إلى ما سبق سرده آنفاً، فقد اهتم ابن هذه الجزيرة في سرده النثري والشعري لصحاريه بأخبار البشر الأشاوس ساكني هذه التنوفة أولي القوة والبأس الشديد، الذين من الممكن أن نستلهم مما قيل فيهم وعنهم نثراً أو شعراً حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والنشاطات الحياتية المختلفة وربما الأحداث التاريخية وخاصة في العهود المبكرة لسكان هذه الصحاري التي عجز التاريخ لأسباب عديدة آنذاك من استلهام أحداثها. ولم يكتف الشعراء بذكر تلك الأخبار البشرية بل زادوا عليها من فيض وصفهم الجغرافي أيضاً لطبيعة رمال أحقافها النقية اللؤلؤية أو أبارقها الذهبية أو عروقها الشهباء أحياناً، ومائها العذب الزلال المسكوب، وواحاتها السندسية ورياضها الغناء ذات العيون الجاريات التي يتفجر بعضها من أحجار تلك الرياض ويخرج البعض الآخر مما يتشقق من تلك الأحجار. كما وصف العرب أيضاً وتغنوا بنباتات صحاريهم الهيفاء وزروعها وجنانها ذات الأفنان، ونخلاتها الباسقات الطلع ذات الأكمام ودوحات سدرها المخضود وطلحها المنضود، وحيواناتها الحرة الطليقة والمستأنسة في حماها، والطيور الفطرية في سماها والأليفة في حواضنها، والحشرات وأسمائها وأماكنها وسلوكها في جحورها أو على عرصات أديم الفلوات والقفار. كما تشمل آداب العرب الجغرافية الشعرية والنثرية أوصاف سماء هذه الصحراء بشمسها الحانية التي ترسل أشعتها الذهبية ما فوق البنفسجية كل نهار لتحتضن الثرى فتكسبه، بما توازن منها مع الأشعة ما تحت الحمراء، دفئاً وتزيده تألقاً، وبقمرها الذي يشهد تغُّير الأزمان وتقُّلب أحوال المكان فرحاً وترحاً، وبنجومها الزاهية البعيدة والقريبة اللاتي اهتدى بها ابن هذه الصحراء حلاً وترحالاً وهو يجوب آفاق صحرائه ويصول بين أمصارها ويجول.
إضافة إلى ذلك يحفل الموروث العربي أيضا بالأخبار الجوية العلوية للصحراء، كتفصيل الرياح واتجاهاتها ومدة هبوبها وأزمانها وفصولها وأحوال عناصر أجوائها الأخرى كالمطر وأزمانه وأماكن هطوله وأسمائه وأوصافه وترتيبه والسحب التي تسببه وأصوات الرعد على القياس والتقريب. كما يحفل موروث ابن هذه البلاد بأخبار ما يتلو الأمطار من ذكر المياه وأماكنها وكمياتها وخروج الماء وسيلانه ومجامعه ومشتقاته وترتيب مسايله وأوصاف الماء فيه.
ويزخر موروث أسلاف صحاري جزيرة العرب أيضاً بالكثير من أوصاف الجبال ذات الجدد البيض والحمر المختلف ألوانها والغرابيب السود، وما يتصل بها أو ينضاف إليها، وأسماء الأرضين وصفاتها في الاتساع والاستواء والبعد والقرب والغلظ والصلابة والسهولة والحزونة والارتفاع والانخفاض. كما يشمل السرد العربي النثري والشعري أوصافاً جغرافية لما ارتفع من الأرض وانخفض كأبعاض التلال والسفوح والحزون والأودية والوهاد والسهوب والحرات والأغوار والدحول وغيرها من المظاهر الجيومرفولوجية الصحراوية البديعة الجذابة الجاذبة المستقطبة. كما يتضمن الموروث الجغرافي العربي لصحاري الجزيرة أسماء ترابها وصفاته والغبار وأوصافه وأشكال أحقاف الرمال الفريدة وألوانها وتحركاتها المزمجرة وانسياقها الزاحف.
ولم تغفل أخبار العرب وأسفارهم أحوال الإنسان في هذه الصحاري وضروب طلبه وسلوك عيشه وآداب كلامه وطرق نطقه ومخارج حروفه وظروف حله وترحاله وسلمه وحربه. كما لم يغفل هذا الموروث الاثنوجرافي نسب ابن الصحراء وحسبه وصفات مأواه وأنماط بنائه وتركيبة قبائله وعشائره، وما يتصل بها أو ينضاف إليها من عادات وتقاليد ونظم اجتماعية واقتصادية بل وحتى الجيوسياسية والاستراتيجية منها على حد سواء.
استنادا إلى ما سبق ذكره من السمت الجغرافي لصحاري جزيرة العرب وسماتها، فقد وصف العربي أرضه بأنها تنوفة فكان صادقاً، فهي واسعة جداً ورحبة جداً ومضيافة جداً، يستعصي على غيرها من صحاري العالم محاكاتها أو المزايدة عليها. فصحاري هذه الجزيرة ليست كصحاري غيرها من الأمم صحراء واحدة بل صحارٍ متعددة متشابكة الأبعاد ممتدة الآفاق متصلة زمكانياً هنا وهناك كبحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب. ويتسامى هذا المتصل الزمكاني مقرناً يابس هذه الصحاري بشطآن بحارها الرملية عبر أديم واسعٍ فعلاً وحيويٍ فعلاً غنيٍ بالذخائر والنفائس والموارد السطحية والباطنية وخزائن الأرض المتجددة والفانية. وصائب جداً بلا شك عندي من يقول إن صحاري الجزيرة العربية قد لا تختلف كثيراً في طبيعتها التضاريسية والمناخية والحيوية عن صحاري العالم الأخرى، إلا أنني في المقابل أقول جازماً بأن نظرة ابن هذه الجزيرة لصحاريه تختلف جملة وتفصيلاً عن نظرته لصحاري العالم الأخرى. ففي هذه الصحاري يربض آخر مآثر مهابط الوحي، وفيها ولد وتوفي خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة والتسليم-، ومن مكة والمدينة أقدس البقاع وأحبها إلى الله تعالى بزغ الإسلام، وعلى ترابها ربت جذور الحضارات وفيها ازدهرت أهم المدن أو القرى في التاريخ العربي القديم. ولا عجب في ذلك فصحاري هذه الجزيرة تمثل جزءاً من نفسية ابنها ويمثل هو كلاً فيها وأساساً في بنائها، وهما معاً جزءان لا ينفصمان يتفاعلان كما تتفاعل إيقاعات أوتار سمفونية الألحان التي لا تضعفها أحداث الزمان أو تكدرها أحوال المكان. ولهذا انطلق أبناء صحاري الجزيرة العربية في كل حدب وصوب متممين ما بدأ به أسلافهم، منقبين عن كل قيم وثمين ومطبقين أنسب الوسائل العصرية التي تكفل تجديد موارد هذه الصحاري وترشيد استثمارها ورفع معدلات الاستفادة منها وتحجيم مشكلاتها البيئية. كما سبروا في السنوات القليلة الماضية وخاصة في المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بفضل من الله ثم بتوجيه رشيد ودعم سخي من قادة هذه الدول، وإشراف دؤوب من حكوماتها مختلف الصحاري مستخدمين أحدث وسائل التقنية الممكنة براً وجواً لاستثمار مكنوناتها المتجددة والفانية، والتعرف على آفاقها وخصائص مزاجها الطبيعي الذي يجمع بين مظاهر البقاء والفناء والنمو والنضوب والحياة والموت والسعة والضيق والصرامة والليونة. كما قامبعض حكومات هذه الدول، كنتيجة لزحف الإنسان على بعض شطآن صحاري جزيرة العرب، بالبحث عن مصادر ثروة أكثر غنى وتنمية زراعية أكثر نضجاً واستثماراً وإستراتيجية أفضل وأسمى مكانة ومدناً ومستوطنات أكثر سعة وانتشاراً وحضارة أقوى مما كانت بناءً واستمراراً. وتستمر أحداث هذه القراءة الروائية لجغرافية الموروث الأدبي لصحاري جزيرة العرب الذي يمزج بين حكمة المُوَّرِّث وعقلانية الوريث مجسدة بصدق وكفاءة صورة أبناء اليوم وهم يسطرون بحمد الله، برعاية كريمة من القيادات السَنِيَّةِ لدول هذه الصحاري، النهاية السعيدة لمسلسل الجهود المباركة التي انعكست أطيافاً مضيئة لمختلف أحداث أديم صحاريهم وأزمنتها وتحولات أمكنتها. فعَمَّ نتيجة لتلك الجهود، التي توجت بتطبيق أفضل برامج التنمية البيئية المستدامة، بعون الله تعالى الاستقرار وانزوي إلى حد كبير التدهور البيئي؛ فسادت الصحراء «الحياة» وغاب عنها كابوس التدهور أو الاضمحلال البيئي «الموات» أو ما يسمى تجاوزاً «التصحر» الذي هدد ماضي جنباتها الهادئة الوديعة المسالمة.