د. طارق بن محمد بن حزام
في زحمة ذكريات الطفولة، تتراءى لي صورة باهتة لجهاز راديو خشبي عتيق، يحتل مكانة مرموقة في صدرِ منزلنا لم يكن هذا الجهاز مجرد قطعة أثاث صامتة، بل كان نافذة سحرية تطل على عالم روحاني ساحر،تشكل في وجداني منذ نعومة، أظفاري بفضل الله ثم إذاعة القرآن الكريم.كانت أصوات المقرئين، العذبة، وهي تتدفق من هذا الراديو، بمنزلة آيات سماوية تحيي، الروح وتنعش القلب. لم أكن أفهم معاني الكلمات في ذلك الوقت تماما، لكنني كنت أشعر بقوة تأثيرها في نفسي، وكأنها تخاطب شيئًا عميقًا في داخلي، شيء أجهل كنهه آنذاك.
أتذكر برنامج «نور على الدرب» و «الفتاوى المؤصلة»، فكانت تدخلني في حالة من الخشوع والسكينة لا مثيل لها، كأن أصواتهم كنسيم عليل يمر على روحي، فيزيل عنها أعباء الحياة وهمومها.كلما تذكرت صوت الشيخ ابن باز، وابن حميد، وابن عثيمين، ابن غديان، ابن غصون وغيرهم من العلماء الأفاضل - رحمهم الله وهم يحلقون بنا في سماءِ الإتقان والإبداع دون تكلف و بقدرتهم الفائقة في فهم ما يحتاجه السائل، وكأنهم يرسمون بالكلمات لوحات فنية بديعة تجسد معاني الرحمة والثقة بين السائل والمسؤول.
لم تكن إذاعة القرآن الكريم مجرد وسيلة للاستماع إلى التلاوة والفتوى والدروس العلمية فحسب، بل كانت مدرسة وجامعة تربوية روحية تعلمنا منها مبادئ الدين الحنيف وقيمه السمحة.
كانت ترسخ فينا معاني الإيمان والتقوى والإحسان، تعلمنا كيف نعيش حياة كريمة مفعمة بالخير والسلام، تعلمنا كيف نحترم ونحب وطننا وولاة أمورنا من الأمراء والعلماء تحلقنا في رمضان حول موائدنا ننتظر صوت انطلاق المدفع يعقبه آذان المغرب بصوت الشيخ عبد العزيز بن ماجد رحمه الله، وكأنه النداء الأخير للصلاة، لقد تركت إذاعة القرآن الكريم بصمة لا تمحى في تكويني النفسي والروحي، فقد ساهمت في تشكيل شخصيتي وهويتي، وغرست في قلبي حب كتاب الله تعالى، وحب الدين وجعلتني أدرك أهمية التدبر في معانيه والعمل بأحكامه.كبرت وكبر معي هذا الحب، وأصبحت أدرك الآن قيمة هذا الكنز الثمين الذي ورثناه عن أجيال سابقة.
اللهم احفظ ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، . اللهم وفقهما لما تحب وترضى، وأيّدهما بتأييدك، ووفقهما بتوفيقك، لكل ما فيه عز الإسلام والمسلمين، واكتب لهم الأجر والثواب.