د. محمد بن أحمد غروي
عندما زرت كمبوديا في رحلة عمل، لم أكن أعلم أنني سأقف على واحدة من أكثر التجارب الإنسانية تعقيدًا وإلهامًا في آنٍ واحد، فرغم أنها دولة صغيرة في جنوب شرق آسيا، لكنها تحمل على أكتافها عبئًا ثقيلًا من التاريخ الدموي والتحولات الجذرية. إلا أن المُثير في تجربتها، هو أن من بين صفحات هذا التاريخ المظلمة، فقد نجحت في صياغة نموذجٍ فريدٍ من التعايش السلمي وإعادة بناء المجتمع المتصدع، فضلًا عن كونها نموذجًا يستحق أن يُدرّس في السياسة، وعلم الاجتماع، ودراسات بناء السلم.
عانت كمبوديا في العقود الأخيرة من مآسٍ مريرة، كان أبرزها حقبة الخمير الحمر التي اختزلت الإنسان إلى مجرد آلة زراعية، حيث سعى بول بوت إلى خلق يوتوبيا زراعية ممزوجة بشبح القهر والإبادة، والأرقام وحدها هنا تنبئ عن حجم الكارثة؛ حيث قُتِل ما يقرب من 1.7 مليون شخص بين إعدامات جماعية وتجويع وعمل قسري، وتحولت البلاد إلى ما يمكن وصفه بـ»أمة من المقابر الجماعية»، كما تم استهداف المثقفين وأصحاب الديانات المختلفة بلا رحمة، وكان المسلمون من أقلية «التشام» بين الضحايا البارزين.
لكن ما يُدهِش هو أن هذه البلاد، التي كانت يومًا ما غارقة في الفوضى، استطاعت في العقود التي تلت ذلك أن تعيد تعريف نفسها. إنها قصة النهوض من رماد التاريخ إلى بناء مجتمع متماسك.
الإسلام، الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد البوذية في كمبوديا، كان شاهدًا على هذه التحولات الكبرى، فعدد المسلمين فيها يبلغ حاليًا قرابة المليون نسمة، ويمثلون أكثر من 5 % من السكان، ويتوزعون بين ثلاث مجموعات رئيسة، وهي: التشام، والملايو (شفيا)، والتشام جاهد، ويمكن القول إن هذه المجموعات ليست مجرد طيف عابر في المجتمع الكمبودي، بل جزء لا يتجزأ من نسيجه السياسي والاجتماعي.
ما يميز المسلمين في كمبوديا ليس عددهم، بل دورهم في تعزيز الانسجام المجتمعي والمشاركة الفاعلة في بناء الدولة الحديثة، ويشغل المسلمون عددًا من المناصب القيادية المؤثرة، بما في ذلك 19 نائب وزير، و6 أعضاء في البرلمان، و5 أعضاء في مجلس الشيوخ، كما أن الحكومة دعمت التعليم الإسلامي بدمج مئات المعلمين المسلمين في منظومتها التعليمية، وشرعت شهادة الحلال، مما يعكس احترامًا حقيقيًا للتنوع الديني.
المهم في التجربة الكمبودية، هو أنه لا يمكن فصل نجاح المسلمين فيها عن عوامل عدة، أبرزها وحدة صفهم وتعليمهم، فضلاً عن انسجامهم مع بقية مكونات المجتمع الكمبودي. في الريف، فالمسلمون يعيشون جنبًا إلى جنب مع غيرهم من السكان في أجواء من التعايش والتعاون، بينما يتجمعون في المدن بأحياء مميزة تحفظ هويتهم، وهذه الديناميكية جعلت منهم نموذجًا للتعايش المثالي بين الأقليات في آسيا.
إلى جانب ذلك، يظهر اهتمام الحكومة الكمبودية بتعزيز الحريات الدينية في دستورها، حيث يشكل هذا الأساس لعلاقات متناغمة بين مختلف الطوائف. لم تكتف الحكومة بتوفير المناخ الآمن للمسلمين، بل تجاوزت ذلك إلى تعزيز التعليم الإسلامي وتسهيل وصولهم إلى المناصب العامة، وهو أمر نادر في كثير من الدول التي تشهد تهميشًا للأقليات المسلمة.
كمبوديا اليوم تقدم درسًا للعالم حول إمكانية بناء مجتمع متعدد الثقافات يسوده الانسجام والاحترام، وتعكس هذه التجربة حقيقة أن التعايش ليس مجرد شعارات، بل عملية شاقة تتطلب إرادة سياسية، رؤية مجتمعية، وتفاعلًا إيجابيًا من جميع الأطراف. ما يجعل تجربة كمبوديا استثنائية هو أن هذه النهضة جاءت من قلب المأساة، في دولة عانت من إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن العشرين، فبينما تحولت دول أخرى إلى بؤر للصراعات الطائفية والعرقية، اختار هذا البلد أن يسلك طريق الوحدة والتقدم، لتصبح مثالاً يُحتذى به.
إن قصة كمبوديا ليست مجرد تأريخ لماضٍ مليء بالآلام، بل هي دليل على أن الانسجام الوطني والديني ليس مستحيلاً، حتى في أكثر البيئات صعوبة، إذا استطاعت هذه الدولة الصغيرة أن تنهض من بحر الدماء لتبني مجتمعًا يعترف بالجميع ويُدمج الجميع، فإن العالم بأسره يستطيع أن يستلهم من تجربتها، وعلى العالم أجمع، أن يستفيد من هذا النموذج في تعزيز الحوار الثقافي والتعايش السلمي، ليس فقط داخليًا بل على مستوى العلاقات الدولية.