م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - يقول المفكر «تورين»: بقدر ما تنتصر الحداثة بقدر ما تفقد قدرتها على التحرر، فقد كنا نعيش في الصمت وصرنا نعيش في الضجيج، كنا معزولين فصرنا ضائعين وسط الزحام، كنا نتسلم قليلاً من الرسائل والآن تنهمر علينا كوابل من نار.. لقد انتزعتنا الحداثة من الحدود الضيقة للثقافة التقليدية المحلية التي كنا نعيش في نعيمها بسلام وألقت بنا في جحيم الحريات المنفلتة.
2 - نقد الحداثة ولد مفهوماً جديداً سمي (ما بعد الحداثة).. وهذا المفهوم لا يعني أنها مرحلة أو امتداد للحداثة في تعاقب زمني أو تطوير لفكر الحداثة، بل يعني النتائج التي ترتبت على الحياة بسبب الحداثة التي امتدت أربعمائة سنة تقريباً، ويعيش العالم اليوم نتائجها على المستويات الفكرية والفنية والعقلية والعملية والاجتماعية والسلوكية وكل شيء آخر في الحياة.
3 - مؤرخو (ما بعد الحداثة) يرون أنه فِكْر وُلِد في أواخر الستينيات، حقبة الثورات الشبابية وظهور جماعات الهيبز والخنافس، حيث التحرر الجنسي، وشيوع المخدرات، ومعارضة الحروب والعنف، والتفكك الأسري، وأغاني الروك الصاخبة.
4 - المفكر الألماني «هابرماس» لا يرى أن هناك شيئاً اسمه (ما بعد الحداثة).. فالحداثة مشروع لم يكتمل ولو اكتملت الحداثة لأصبحت تقليداً وليست حداثة.. لكنه فسرها على أنها رغبة بعض المفكرين في الابتعاد عن التناقضات التي أحدثتها الحداثة في المجتمع.. وما عمل هؤلاء المفكرين سوى محاولة لوصف العصر الجديد والإشكاليات التي أوجدتها الحداثة ولم يجدوا لها حلاً.. وأن وصف (ما بعد الحداثة) ما هو سوى صيغة جديدة لمفهوم قائم الذي هو الحداثة، وأنها محاولة لإثراء مرحلة الحداثة ذاتها وإتمام مشروعها.
5 - منتقدو الحداثة يرون أنها أوجدت حالة من التناقضات والإشكاليات والتحديات التي لم تكن وليدة حروب أو كوارث طبيعية، بل وليدة حداثة أسلوب الحياة الذي خلق التصادم بين الروح والعقل.. وهز التوافق الاجتماعي، وفكك الترابط الأسري، وكلها سببت اختناقات فكرية وحضارية ومجتمعية على المستويين الفردي والجماعي.. وبالتالي يرى مفكرو (ما بعد الحداثة) أنها محاولة لإعادة ترتيب إشكاليات الحداثة، ومن ثم العمل على تنظيم تناقضاتها وإعادة إنتاجها مرة أخرى حتى تتكامل مع الوجود الفكري والإنساني في لُحْمة واحدة.
6 - مناصرو فكر (ما بعد الحداثة) يرون أنه مصطلح لا يرفض الحداثة لكنه وليد مناخ فكري جديد ولَّد بدوره أنظمة فكرية جاءت تعبيراً عن وعي إنساني يتسم بطابع النقد والتمرد على الحداثة.. وبقدر ما قوَّضت الحداثة العلاقة بين العقل والروح بقدر ما تحاول (ما بعد الحداثة) الجمع بين الروح والعقل، وتعزِّز التقاطعات التكاملية بينهما.. وكل هذا في محاولة لإصلاح إشكاليات الحداثة مثل التفكك الأسري، والفردية الطاغية على الجماعة.
7 - مفكرو (ما بعد الحداثة) يرون أن الحداثة أحدثت شرخاً في المجتمع من خلال التجزئة والانشطار في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والفكرية.. ودور فكر (ما بعد الحداثة) هو محاولة جبر هذا الانشطار وجمع الأجزاء المشتتة سعياً نحو التكامل اجتماعياً وإنسانياً.
8 - يبقى السؤال: هل فكر (ما بعد الحداثة) هو ضد فكر الحداثة؟ وما الذي يطوره فكر (ما بعد الحداثة) في فكر الحداثة؟ وهل فكر (ما بعد الحداثة) هو قطيعة لفكر الحداثة أم هو استمرارية له؟ المفكر الألماني «هابرماس» يجيب بأن فكر (ما بعد الحداثة) يثبت أن فكر الحداثة مشروع قابل للتعديل والتطوير والتصحيح والتوجيه.. فالحداثة مشروع لم يكتمل بعد ولا يكتمل.. وكل الأفكار الإنسانية لا يمكن أن تواصل مسيرتها بلا أزمات تهيئ لمراجعتها وتصحيح مسارها وهذا سر قوتها ومصدر نموها.