أ.د.عثمان بن صالح العامر
كنت أقرأ في كتاب الدكتور عبدالوهاب المسيري (الثقافة والمنهج) للكاتبة سوزان حرفي، ومر بي حين حديثة عن المؤثرات الحقيقية في بناء شخصيته وتكوين فكره المجتمعي الرافض للرأسمالية المادية المقيتة، تشخيصه للعلاقات الاقتصادية في دمنهور، حيث ولد وعاش في أول عمره هناك، ومما قاله في هذا: (... البيع والشراء لم تكن مسألة اقتصادية وحسب، وإنما كان يتخللها قيم أخرى غير مادية. أذكر حادثة تدلل على ذلك، وتعبر عن الواقع التعاقدي التراحمي في المجتمع الدمنهوري. جاءت لباب منزلنا فتاة كانت على قدر من الأناقة والجمال، تعرض سلة بها بعض الأشياء للبيع، فرفضتها بناء على إدراكي أننا لا نحتاج لمثل هذه الأشياء وفوجئت بأن أمي تزجرني، وقامت بشراء السلة من الفتاة بسعر جنيه مصري، مع أن القيمة الحقيقية للسلة لا تتعدى عشرة قروش. وفيما بعد عرفت أن هذه الفتاة ابنة أحد كبار التجار الذي أفلس أو توفي لا أذكر بالضبط، وأن عملية البيع والشراء التي تمت بين أمي والفتاة تمت تحت غطاء تعاقدي ظاهري، ولكنها في واقع الأمر تمت في إطار تراحمي).
قفز إلى ذهني حينها صورة أولئك النسوة اللاتي يجلسن على قارعة الطريق لبيع الشاي والقهوة بثمن بخس ريالات معدودة طلباً للرزق الحلال، مثلهن أولئك الأطفال الذين يتجولون عند إشارات المرور لبيع المناديل والماء، ينتقلون من شارع لآخر، يطرقون على أصحاب المركبات نوافذ سياراتهم لعل وعسى أن يشتري هذا المار مما في أيديهم من بضاعة، وفي هذه الأيام يقف الباعة أصحاب الدخل الضعيف بسياراتهم القديمة عند محطات الوقود وقريباً من أبواب المساجد لبيع ملابس الشتاء، هؤلاء وأمثالهم المفترض -في نظري طبعاً- أن تتم عملية الشراء منهم في إطار (تراحمي) لا (تعاقدي) بحثاً عن الأرخص، لأنهم غالباً ما كان منهم هذا السلوك إلا لما هم فيه من فقر وعوز وحاجة، فلا تتم مماكستهم ولا إحراجهم ولا الاستخفاف بهم وبتجارتهم التي يسوقونها في هذا الجو الشتوي البارد. مع الحذر الشديد من أن ينصرف هذا الإطار الشرعي المندوب له لمن هم ليسوا من أصحابه الذين يوظفون مثل هذه السلوكيات لاستدرار المشاعر، ويعتبرونها النهج البديل عن التسول الممنوع، والتمييز بين هؤلاء وأولئك واضح لمن تفرس واجتهد، وإلى لقاء، والسلام.