د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
حين كنت صغيرًا أدرس في المرحلة الابتدائية رأيت بعض الزملاء من الصفوف المتقدمة يلطخون ثيابهم ببقع من الحبر، وحين سألت مستغربًا قيل لي ليعلم من يراه أنه يعرف الكتابة، وأما نحن الصغارَ فلم يؤذن لنا باستعمال قلم الحبر، وكان علينا أن نستعمل المرسمة (قلم الرصاص) فكان ذلك يحز في أنفسنا حزًّا ويشعرنا بأننا دون أولئك الكبار، أما هم فتراهم يفتخرون بتعليق قلم حبر أو أكثر في الجيب الأمامي فيراه الناس ويوقنون أن حاملة متعلم (يقرأ ويكتب)، وهكذا كانت هذه العبارة تكتب في بيانات (التابعية) أي بيانات الهوية الوطنية القديمة.
كانت مهارة القراءة والكتابة أهم مهارتين يركز عليهما التعليم في بداية المرحلة الابتدائية، وكان القلم من أهم أدوات التعلم، وتبارى المتعلمون في اقتناء أحسن الأقلام وأجودها سنًّا وأصلبها رأسًا، وكان كثير منا يعاني من مشكلات القلم الذي تنثني سنه بالضغط أثناء الكتابة، وينفلق رأسه فينز بالحبر فيلطخ الأصابع. كانت معظم الأقلام التي نستطيع شراءها رديئة، ثم كان قلمٌ جديد ليس كأقلامنا تميز برشاقة بدنه وجمال صنعه وبقوته ونظافة الكتابة به، وذلك قلم (فيزبن)، كان قلة من الناس من يملك هذا القلم. وتعددت أشكال الأقلام بعد ذلك فكان منها ما يتصف بألوان زاهية، وأكثر قلم رأيت تميزه في ذلك الزمن قلم عاد به أخي (محمد)، أطال الله عمره، من الحجاز بعد نهاية الدورة التدريبية الصيفية في الطائف (1373ه)، كان القلم فستقيّ اللون، حُفِر على جنبه اسمه الكريم بخط الرقعة، وهو في الأصل قلم الأستاذ عبدالعزيز الهزّاع (الفنان المشهور رحمه الله)، وكان زميل أخي في الدورة، قسا الأستاذ الهزاع على القلم فانثنت سنه فعدلها فلم تعتدل كما كانت وقص طرفًا منها؛ ولكنه ضاق آخر الأمر به ذرعًا، كان القلم غالي الثمن فاخرًا فتحيّر في أمره فقرر بيعه، فكان أن قرر الزملاء تقسيم قيمته عليهم جميعًا ثم يقترعون ليكون لمن يفوز به، وكان من نصيب أخي، قال: «ذهبت إلى مكتبة وغيرت سنّ القلم فعاد جديدًا». وظل يستعمله سنوات طويلة.
وحدثت ثورة في صناعة الأقلام باختراع القلم الجاف الذي شاع استعماله؛ لأنه أرخص ثمنًا من السائل (السقّا) وأقل مؤونة، فهو لا يحتاج إلى ملء خزانه بالحبر من وقت إلى آخر، فتخفف الناس من اقتناء المحابر وحملها. وتميز هذا القلم بتحمله الضغط، ووهب هذا ميزة إمكان استعماله لإنتاج نسخ من المكتوب باستعمال ورق الكربون الذي تدغم بين ورقتين وربما ثلاث أوراق فتكون نسخٌ متطابقة، أذكر أني فعلت هذا حين كتبت فهرس ديوان امرئ القيس (في السنة الثانية من مرحلة البكالوريوس) فجعلت نسختين إحداهما لي والأخرى كان طلبها مني ابن خالي إبراهيم بن محمد، أما الأصل فهو المقدم لأستاذي د. أحمد الضبيب، الذي أعاد إلي هذا الأصل بعد سنوات من تدريسي في الكلية.
ظل القلم رفيق المتعلم والمعلم والأديب والمثقف لا يفارق جيب صاحبه، وظل المتعلمون يتباهون بحسن خطوطهم، وكانت جمهرتهم يكتبون بخطوط مقروءة واضحة مراعية هندسة كتابة الحرف.
لم تُخمل أمرَ القلم الآلات الكاتبة؛ لأنها كانت تعتمد في الغالب عندنا على نسخ مكتوبٍ باليد ابتداءًا، ولَمّا يتعودِ الناس كثيرًا إنشاء الكتابة بها، وكان كتّاب الآلة قلة، وصارت الكتابة على الآلة حرفة ووظيفة مهمة، واعتُمد عليها في المكاتبات الرسمية؛ ولكنها ظلت تالية للقلم خادمة له.
ثم جاءت ثورة صناعية جبّارة طاغية قلبت الأمور وغيرت الأحوال هي ثورة الحوسبة والحواسيب التي هيأت آلات للكتابة بإمكانات تفوق الكتابة اليدوية، وبدأ الناس تعلم الكتابة بهذه الآلات واستمرؤوا ذلك، ربما كانوا ينسخون ما كتبوا بأيديهم أوّلًا؛ ولكنهم شرعوا ينشؤون الكتابة بها كما أفعل الآن في كتابة هذا المقال، ومع ذلك ما زال القلم في هذه المرحلة له مكانه على المكتب وفي جيوب الناس؛ لأن حمل الحواسيب واستعمالها في كل حين ليس بالأمر السهل الميسور.
ثم جاءت الجوّالات الذكية التي زوت من الإمكانات العجائب، فتحول الناس للتدوين بها وفيها، واستغنوا في كثير من أمورهم عن الأقلام والأوراق، وربما رأيت الخطيب يقرأ من جواله والمنشد ينشد قصيدته المدونة على جواله، وصار الجوال مكتبة متنقلة ومكتبًا عامرًا مرنًا، ولكن الأمر المؤسف المحزن أن الناس ضعُفت مهارتهم مهارة الكتابة؛ فإذا كتبوا تراهم يكتبون بخطوط مفكّكة أو متداخلة وأفسدوا هندسة الحروف، وضاع إحساسهم بجمال الخطوط وحسنها، فتجدهم يستحسنون من خطوط الحواسيب ما ليس من الجمال في شيء.
أما طلابنا اليوم فأنسوا أمر القلم، وما عدت ترى جيوبهم مزينة بقلم، ومن الأمور الغريبة التي بدأنا نعاني منها أن الطالب يدخل قاعة الاختبار ثم ينتبه إلى أنه لا يحمل قلمًا فيستأذن ليعود لشراء قلم، وفي اختبار هذا الفصل بعثت رسالة بريدية إلى طلاب الشعبة جميعًا نبهتهم إلى وجوب التزود بالأقلام والحضور في موعد الاختبار؛ لأنه لن يؤذن لمن تجاوز نصف ساعة بالاختبار، ولكن بعضهم جاء بلا قلم وبعضهم جاء بُعيد مضي نصف ساعة، فبسبب هذه الجوّالات المذهلة صار طلابنا بلا أقلام.