د.نادية هناوي
وصف النقاد رواية: (امرأة الضابط الفرنسي) 1969م للبريطاني جون فاولز بأنها فكتورية. وهو أمر مهم لأن الرواية الفكتورية كانت تسير على قاعدة لا واقعية وبالتقاليد نفسها التي كان النظام السردي القديم يسير عليها. ولذلك سعى جون فاولز إلى التملص من الواقعية -وإن كان بشكل غير كبير قياساً بما قام به بروست أو جويس أو بورخس- عبر استعمال تكنيك «غير المسرود» متبعاً تقليد الخيالية، جاعلاً «غير المسرود» تكنيكاً سردياً، يصنع أشكالاً من التنافر والمفارقات.
ولقد اهتم جيرالد برنس في كتابه (علم السرد) بغير المسرود Disnarrated ويعني ما لا يقبل السرد أي توظيف ما لا يقبله السرد أو ما يستحيل سرده داخل الروايات والقصص الواقعية والخيالية. وتوطدت أبعاد هذا المسمى حتى أصبح مصطلحاً نقدياً من مصطلحات السرد ما بعد الكلاسيكي. وما من غرابة في أن يلقى مصطلح (غير المسرود) اهتمام بعض الباحثين في الغرب نظراً لما وجدوه فيه من إثارة تدفعهم نحو دراسته، أولاً لأنه يخدم توجهاتهم في الاهتمام بما أهمله البنيويون وما بعد البنيويين من موضوعات السرد واشتغالاته، وثانياً لأنه يضيف إلى معجمهم السردي إضافة جديدة ونوعية.
ومن نافلة القول إن السرد القديم كان قد قام على قاعدة لا واقعية وعليها تأسست تقاليده الفنية التي عرفها السارد القديم كمنظومة أو نظام سردي راسخ تدل عليه المرويات التراثية الشرقية والعربية، ومن تلك التقاليد: الخيالية، التكرار، الحكاء، اللا محاكاة. واستمر هذا النظام مؤثراً وبقوة في الآداب الأوربية في عصر النهضة وروايات القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم تفارقه إلا حين أخذ الفكر الاستشراقي يؤثّر في كتَّاب القرن التاسع ويملي عليهم التعبير عن تفوق العقل الغربي. وانطلاقاً من ذلك كله صار دور الفكر الاستشراقي كبيراَ في أن تصبح الواقعية قاعدة لنظام أدبي جديد يحدُّ من جموح التخييل، وعنه انبثقت سائر المذاهب الأدبية المعبرة عن الفرد ووعيه بالمجتمع.
بيد أن أي تأسيس لا يترسخ من دون أن يتوفر له بعد تاريخي، ولا يتحقق هذا البعد في قرن أو قرنين إنما هي سلسلة مراحل تاريخية متعددة وطويلة. وما إن صارت الواقعية سمة الرواية لأكثر من مئة عام حتى دخلت الرواية في أزمة واقعية وأخذ التململ منها يتوضح منذ منتصف القرن العشرين لاسيما عند روائيي الستينيات الذين تغايروا في توظيف الواقعية، وفي ذلك دلالة قاطعة على أن من غير اليسير وضع نظام سردي جديد قاعدته واقعية.
وما استعادة توظيف»غير المسرود» والاهتمام به مجدداً في الرواية ما بعد الحداثية سوى مثال من أمثلة كثيرة على رسوخ القاعدة اللا واقعية كصيرورة سردية صالحة لكل زمان ومكان.
وعلى الرغم من توظيف الميتاسرد في الرواية الواقعية، فإن الروايات التي سميت بالجديدة تعدت ذلك إلى استعادة اللا واقعية تقليداً من تقاليد السرد الذي كانت روايات القرنين السابع عشر والثامن عشر تسير على وفقه ومعها بعض روايات القرن التاسع عشر التي فيها نجد «غير المسرود» مستعملاً بوضوح أي من قبل أن تأخذ الفلسفة الأوربية دورها في توجيه العقل الغربي نحو العقلانية مؤثّرة بشكل مركزي في توجهات الكتّاب.
ومن الباحثين الذين أثارهم استعمال «غير المسرود» في السرد الواقعي مارينا لامبرو التي اتخذت منه أطروحة لكتابها الموسوم (غير المسرود وغير المتذكر في الحقيقة والخيال) 2019م، وغايتها إثبات أن «غير المسرود» اسم لشيء غير قادر على القيام بفعل سردي في الحقيقة ولكنه قابل لأن يكون فاعلاً سردياً بالتخييل. أما كيف أثبتت ذلك فمن خلال تعاملها مع السرد كأخبار وأقوال سردية storytelling وليس كأفعال أو أحداث كما يذهب السرديون الكلاسيكيون الذين لم يكونوا غافلين عن هذا التكنيك، لكنهم لم يروا فيه لا معقولية لأنهم فسروه على أنه نتيجة تدخل المؤلف الذي يقبع خارج السرد وسموا هذا التكنيك بالميتاسرد. وفيه يكون المؤلف حاضراً كذات حقيقية تشارك في البناء السردي. مما يضع السارد والمسرود له في حالة تحد مع القارئ الضمني والمتلقي الخارجي أو الاثنين معاً. فيصبح السرد فاعلية تفكرية يسميها جيرالد برنس بـ(السرد المحفز للتفكير thought- provoking narrative) وتتحصل هذه الفاعلية من جراء ما يتركه الروائي من فجوات، تتطلب من القارئ أن يشارك الروائي عمله بالتأويل كي يردم تلك الفجوات.
ويرى ما بعد الكلاسيكيين في استعمال غير المسرود تكنيكا غير اعتيادي لأن ما يجري داخل السرد لا يكون بسبب تدخل خارجي من لدن المؤلف إنما هو يجري بفعل وجود شيء غير قابل للسرد أي «غير مسرود» هو معاق أو معطل أو محروم أو مجهول، ومع ذلك يخبرنا السارد أنه يقوم بأفعال تنتفي مع ما لديه من إمكانيات، فتتولد عن ذلك اختلافات وتضادات في الواقع الموضوعي تجعل القارئ أمام أمرين: الأول الإثارة الفنية والثاني التفكير الذه ني في هذا الذي يحدث وهو لم يحدث. وحددت لامبرو الكيفية التي بها يعمل غير المسرود في ثلاثة أنواع من السرد هي: 1) السيرة الذاتية 2) السرد الواقعي 3) السرد الفيلمي. وطبقت رؤاها على بعض روايات مارك توين وجون فاولز وقصص قصيرة، منها قصة للأمريكي توبياس وولف وفيلم «حلم لالاند» 2016م.
وابتدأت تحليلاتها بمقطع من رواية مارك توين، فيها يخبرنا السارد الذاتي إنه يتذكر ما لم يحدث ويتحدث عما هو غير متذكر(عندما كنت يافعا أستطيع أن أتذكر كل شيء سواء حدث أو لم يحدث لكن ملكاتي تدهورت الآن وقريباً سوف أكون كذلك. أنا لا أستطيع تذكر أي شيء سوى الأشياء التي لم تحدث قط) وهذا أمر غير ممكن الوقوع على الحقيقة بيد أن ما لا يقبل السرد يصبح ممكناً سرده بالخيال عن طريق الإخبار؛ إما عن تجارب شخصية وإما عن سيناريوهات مضادة للواقع.
وتوزع جهد مارينا لامبرو في كتابها أعلاه بين الحديث عن إستراتيجيات عمل غير المسرود في سرد التجارب الشخصية وبين شرح التكنيكات غير التقليدية التي يجدها السارد تستحق أن تسرد وهي ليست كذلك وكيف أنها تجعل السرد عالمياً عابراً للثقافات مما يعمِّق الوعي الاجتماعي في الإحساس بالواقع فضلاً عن كونه يؤكد ما لعلم السرد من سعة تجعله موضع اهتمام لا اللغويين والمنظرين الأدبيين حسب، بل علماء الأنثروبولوجيا والفلاسفة والمؤرخين وعلماء النفس أيضاً.
وعلى الرغم من اهتمام لامبرو بالتوسيع الذي حققه علم السرد ما بعد الكلاسيكي، فإنها لم تعكسه على دراستها كأن تجمع علم السرد بالتاريخ الأدبي مثلاً أو تنظر إلى قدم توظيف غير المسرود في المرويات الشرقية عامة والمرويات التراثية العربية خاصة.
** **
- أكاديمية وناقدة عراقية