عبدالله العولقي
يعد الأديب الأريب الشاعر أحمد بن إبراهيم مصطفى الهاشمي (1878م – 1943م) أحد أهم المؤلفين في مجال اللغة العربية خلال القرن العشرين، حيث كتب الله لمؤلفاته القبول بين يدي الدارسين والباحثين وطلاب الدراسات العليا في الجامعات العربية لكونها اتسمت بتغطية كافة علوم اللغة العربية من أدب وشعر ونحو وصرف وعروض وإنشاء وبلاغة، بالإضافة إلى أنها اتسمت بالعمق والرصانة والثقل الموضوعي، ولا شك أن ذلك يعود إلى ثقافة الهاشمي الموسوعية ودراسته الجادة في تناوله للموضوعات التي يختارها.
صنّف الهاشمي مجموعة كتب قيمة في مختلف الجوانب الأدبية ويعد كتابه جواهر الأدب العلامة المضيئة بين هذه الكتب كونه الأشهر في المكتبات العربية فلا يكاد يخلو بيت أديب من نسخة منه، وقد اشتهر هذا الكتاب الموسوعي بالمختارات الأدبية في الشعر والنثر والتي تنمّ عن الذائقة الأدبية الرفيعة التي كان يتمتع بها الهاشمي رحمه الله، كما أن له كتاباً مرجعياً مهماً في الإملاء ورسم الكلمات وسمه بـ المفرد العلم في رسم القلم، وله كتاب رائع في العروض وعلل القوافي وسمه بـ ميزان الذهب في صناعة شعر العرب، وله أيضاً في الإنشاء بعنوان الأسلوب الحكيم في منهج الإنشاء القويم، وله كذلك في النحو بعنوان القواعد الأساسية للغة العربية، وله آخر مخصصاً في الإعراب بعنوان جواهر الإعراب، أما كتابه المتخصص في البلاغة بأقسامها الثلاثة المعاني والبيان والبديع فقد وسمه بجواهر البلاغة.
للهاشمي تجربة أدبية أزهرية لا تخرج عن المدرسة التقليدية الرائجة في زمانه، وهي مدرسة تهتم بفنون البلاغة وترصيعاتها الفنيةكالسجع مثلاً، وهذه المدرسة كانت سائدة في كافة المؤسسات الرسمية ولغة المحافل الاجتماعية كالأزهر الشريف والصحافة وأسلوب العلماء والمتعلمين، ويتضح ذلك من عناوين كتبه وكذلك المقدمات التي كان يتأنق الهاشمي بافتتاحها لكتبه والتي رصّعها بالسجع في أغلبها ، وقد أودع الهاشمي كتاباته النثرية في كتابه جواهر الأدب في فنون الانشاء كالمراسلات والمناظرات والأوصاف والمقامات وغيرها، ويتضح من خلالها ثقافته الأدبية التقليدية التي تنمّ عن ثرائه اللغوي والبلاغي وإتقانه الكبير لفنون الكتابة الأدبية، ولا شك أنه كان مفتوناً بالسجع والبيان وترصيع العبارات بالحلي اللفظية على حساب المعنى، ويُعذر في ذلك كون هذا الأسلوب هو السائد في زمنه بل إنه كان معيار التفاضل بين الأدباء والكتاب في ذلك الوقت.
يقول في رسالة كتبها في فن التعارف قبل اللقاء ويتضح من خلالها أسلوبه الفني: لقد بلغني عنك في وفائك وفضلك ، ما يدعوني لخطب ودك ، ويرغبني في إخائك، ويحببني في التوسل إلى معرفة جنابك، وإن لم تجمعنا جامعة شخصية، ولم تضمّنا حفلة تعارف ذاتية، إلا أن أحاديث فضائلك الصحاح ، أوفدت عليك الأرواح قبل الأشباح، والولاء والخلاص قبل الأجسام والأشخاص .
أما إذا تحدثنا عن تجربته الشعرية ، فلا يوجد للهاشمي ديواناً يضم قصائده كونه مقلاً في الإنتاج الشعري، فله ثلاث قصائد شعرية طرّزها في كتابه جواهر الأدب، ومن خلال دراسة شعره نجد أنه شاعراً لا يقل عن معاصريه من الشعراء الأزهريين في موهبة النظم التقليدي، والتزامه التام بالوزن الشعري بصورة دقيقة جداً بيد أنه شعر خالٍ من الإبتكار والتجديد في المعان، ففي لاميّته التي عارض بها لاميّة الطغرائي -وفي هذا دلالة على ثقته بقدراته الأدبية- نجد نفسه الأزهري التقليدي يفوح بقوة في تجربته الشعرية، فهو ابنٌ بارٌللمدرسة الأزهرية، حيث يبتدأ قصيدته بسلسة من النصائح التقليدية ذات الدلالة القاطعة والتي لا تحتمل أي نسبية في المعنى:
عليك بالصبر والإخلاص في العمل
ولازم الخير في حلٍ ومرتحل
وجانب الشر واعلم أن صاحبه
لا بدّ يجزاه في سهلٍ وفي جبل
ومن وجهة نظري أن هذه النصائح القاطعة التي سادت في ثقافتنا العربية منذ العصر الجاهلي تمثل ضآلة إلى حدٍ ما في فهم النفسية الإنسانية، ففي العصر الجاهلي مثلاً نجد زهير بن أبي سلمى يمثل هذا التوجه الإملائي للأخلاق والآداب بصيغة الشرط:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ، ومن لا يتق الشتم يشتم
وهكذا في بقية القصيدة، وهذا نجده أيضاً في لامية الهاشمي عندما يملي نصائحه من واقع خبرته الحياتية، وهكذا نجده يملي النصائح على المتلقي كونها تحمل نسبة 100% مع أن النفس البشرية تفيض بسلسلة من التناقضات السلوكية حسب دوافعها ومعيشتها وظروفها وعاداتها المجتمعية وثقافتها وقيمها الدينية وحتى طقسها مناخها، كل هذه ظروف مؤثرة في أخلاق النفس البشرية، ولعلنا في ذلك نجد استثناءات علمية ونفسية رائعة في أدبنا العربي وصلت ذروتها في العصر العباسي الثاني عند أبي الطيب المتنبي الذي كان واعياً بأسرار وخفايا النفس الإنسانية أكثر من الشعراء التقليديين، فنجد المتنبي مثلاً يستعمل أسلوب النسبيّة غير القاطع في أحكامه الأخلاقية ونصائحه في خطابه الشعري، فنجده مثلاً يستخدم أسلوب من التبعيضية كدلالة على النسبية في أخلاق بني البشر:
ومن العداوة ما ينا لك نفعه
ومن الصداقة ما يضرُّ ويؤلم
ويستعمل ( كم ) للدلالة على النسبية:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم
وأحياناً يستعمل (ما) للدلالة على النسبية أيضاً :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ولذا جاءت تجربته الشعرية ثرية في تعاملها مع النفس الإنسانية وإن كان أيضاً لا يسلم هو الآخر في الوقوع في براثن القطعية في كثير من أبياته وحكمه كونه ابناً للثقافة العربية:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روّى رمحه غير راحم
وربما تعود فلسفة المتنبي النسبية ومعرفته الدقيقة من مجالس سيف الدولة في حلب والتي كان يحضرها نخبة مثقفة من المفكرين والفلاسفة الذين اطلعوا على الآداب والفلسفة الأغريقية القديمة وعلى رأسهم الفارابي!
نعود إلى تجربة الهاشمي الشعرية فهناك قصيدة أخرى قد نعتبرها سياسية يشكو فيها الشاعر من الشرق بقول في مطلعها:
قضيت شبيبتي وبذلت جهدي
فلم تكن الحياة كما أريد
إلى كم أستحثُّ النفس عزماً
وكم أسعى وغيري يستفيد
نهضت، فقيل: أي فتى ؟
فلما خبرت الأمر أعجبني القعود
ولعله في هذه القصيدة يتذمر من أوضاع السياسة في ذلك الوقت ،وصراع الأحزاب السياسية على حساب مصلحة الوطن، فقد تذمر من الأوضاع السائدة في وطنه ذلك الوقت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي .
أما قصيدته الثالثة والأخيرة فهي في تهنئة لعلي يوسف صاحب جريدة المؤيد بأوبته من أوروبا:
علي القدر ذو الشرف المؤيد
شديد العزم يوسف قد تفرّدْ
وحيد الفضل والعلياء تشهد
رفيع المجد في عزٍ وسؤدد
شريف النفس محمود السجايا
عريق الأصل في المعروف أوحد
وفي نهاية القصيدة يستعرض الهاشمي قدراته في النظم التقليدي:
وهاك من المحب قصيد شعري
تشير إلى وفائي بل وتشهدْ
تفاخر مصر أهل الشرق فيها
تقول الهاشميُّ شدا وأنشد
ولم أعثر له في غير جواهر الأدب أو سواه عن غير هذه الثلاث قصائد .
وخاتمة القول: نثر الهاشمي وشعره متوسط القيمة كونه لا يهبط إلى الأدب الساذج السطحي ولا يرتفع إلى قيمة الفكروالإبداع الإنساني مثل أدب بعض معاصريه كالعقاد وطه حسين والرافعي والزيات، أما قيمته الأدبية في ثقافتنا العربية فتكمن في مؤلفاته العظيمة في فنون اللغة العربية ، والتي تعد اليوم من أهم المراجع العلمية في الجامعات العربية.