رقية نبيل عبيد
قليلة جدًا هي الكتب التي يكون عنوانها هو الموضوع الأبرز والأكثر جاذبية فيها، الفكرة التي يشعّ بالضوء عليها ويلقيها إلى ذهنك ببساطة جميلة، هكذا تسحبك المقدمة إلى أفكار الكاتبة وذكرياتها وطفولتها قبل حتى أن تبدأ!
الكتاب الأبيض، في مستهلّه وضعت الكاتبة الكورية هان كانغ قائمة بكل الأشياء البيضاء التي تخطر لها فور أن تُذكر كلمة أبيض:
قماط، كفن، ثلج، ضباب، كعكة الأرز، الضوء، حليب، كريستالات ثلجية، موْج، رماد، ملح، قمر، نوارس، بيضاء، مكعبات السكر، غيوم.
كل كلمة بيضاء نقية تحمل خاطرة جديدة تنساب في ذهنها ، تنزلق بلطف إلى أفكارها، بعضها ذكريات بعيدة منسية، والبعض الآخر مشاهدًا حاضرة تبصرها اليوم وهي تسير الهوينا، وحدها، محملة بكل هذا الأبيض عديم اللون، أحيانًا يكون نقيًا عذبًا، وأحيانًا يكون مملوءًا بالفراغ، واعدًا بالوحدة، بالعدم.
في صباح شتويّ بارد جميل، وضعتْ امرأة تبلغ الثانية والعشرين من عمرها طفلتها الأولى، كانت وحيدة تمامًا وفي شهرها السابع حين فاجأتها آلام المخاض، أمسكتْ بالطفلة الصغيرة لثوان معدودة أدارتْ فيها الرضيعة التي تبصر العالم لأول مرة من وراء عينين مشوشتين، أدارت عيناها لأمها قبل أن تُسلم الروح!
بعد سنوات ستلد المرأة ذاتها كاتِبة الكتاب الأبيض، حين تَعرف بالقصة كاملة تُراودها بقوة وهي في بلد غريب تجول الشوارع المزدحمة وتكتم صراعات كثيرة تضطرم بداخلها، تفكر في الشقيقة الكبرى التي ما رأتْها يومًا، تتخيلها تكبر، وتُفطم، وتصبح امرأة، حيث تتشاركان الأحلام والآراء والرؤى، تتخيل والدتها، شابة ووحيدة، وبين يديها جثة طفلتها الأولى البكرى، وأي مشاعر اتنابتْها حينئذ، تفكر في الشقيقة التي ما امتلكتها يومًا، في الحكايات التي كان من الممكن أن تتبادلاها فيما بينهما، تتساءل عن ماهية إحساس مشاركة ذات الأبوين مع شقيقة تشبهها ، ذات البيت، وذات الطفولة وذات الذكريات، والجِيرة والمدرسة وغالبًا الأصدقاء، كل الأمور التي لم تعد ممكنة ورحلت للأبد.
وفجأة ولأول مرة منذ وقت طويل للغاية، وجدتُني أفكر في شقيقتنا!
مَن يعرفنا يعرف أنّي وإخوتي العشر حفظهم الله لا توجد فروقات زمنية تفصل بيننا، عام ونصف أو عامين على الأكثر بين كل شقيق وشقيقة، لكن ما بين شقيقتي سلمى التي تصغرني بثلاثة أعوام وعبد الرحيم الذي يصغرني بستة أعوام توجد الفجوة الزمنية الوحيدة بيننا، هذه الفجوة، هذا الفراغ الوقتي ، تشغله شقيقتنا رحمها الله والتي اقتصر عمرها على خمسة أيام قضتها في الحضانة قبل أن تتركنا راحلة إثر قصور في جهازها التنفسي، في كل مرة تحبل أمي -حفظها الله ومتعها بالصحة والعافية - كان البيت يُجهز، شرائط ملونة تُعلق، لوحات مكتوبة بخطوطنا الطفولية ترحب بالقادم الجديد، أناشيد تُحفظ وعدوى بالفرحة تصيب أفراد البيت جميعهم، وفي هذه المرة لم يختلف الأمر، الاستنثاء الوحيد كان والدتي حفظها الله وهي عائدة إلى المنزل دون الوليد الجديد بين ذراعيها، شقيقتنا التي سمّاها والدي حفظه الله « أَمَة الله «، كثيرًا ما جالتْ بذهني، تُرى أي شخصية كانت لتكون لها؟ أي موهبة كانت لتحوزها؟ ملامح مَن مِنّا كانت ستشبه أكثر ؟ أينا كان ليكون الأقرب إليها؟ تُفضي إليه بأسرارها وتتبادل معه الحكايا في الهزيع الأخير من الليل ونحن شبه نيام فيما جهاز التكييف يهدر من فوقنا،شيءٌ يشبه ما تشاركتُه دومًا مع شقيقتي الحبيبة سارة.
وأنا أقرأ الكتاب الأبيض عادت إلي ذكراها بكل قوة، وفجأة كنت مجددًا الطفلة الصغيرة التي تنظر بحيرة إلى أمي وهي تبكي بينما تشاهدنا نخلع الزينة بهدوء وأسأل شقيقتي الكبرى فاطمة «فيِن النونو «؟ هكذا تُوحّدنا الكلمات، هكذا تجمعنا الكتابة، هكذا تلتقطنا الذكريات والمشاعر الموحدة روحًا روحًا وتخيطنا جميعًا في الثوب الإنساني نفسه، وهكذا جمعني كتابٌ أبيض بكاتبة كورية تقضي بعيدةً أيامها مغتربة في دولة غربية، تهمس لي بذكريات مريرة ما فتحتْ لها من قبل بابًا، وأجيبها أنا بأصداء ذكريات أخرى مشابهة لها!
الكتاب الأبيض مقطوعات متفرقة من قصيدة واحدة ، أبيات شعرية منتزعة من لُبّ القصيدة، من هنا وهناك، من أمسٍ ومن غدٍ،من أمور كانت وأمور ستكون وأمور كانت لتكون، هان كانغ شاعِرة، وهذه الكلمات المنثورة هي طريقتها في نظم قصيدة غير أنها بوزنٍ وقافيةٍ مختلفة.