محمد بن عيسى الكنعان
عندما تستضيف المملكة اللقاء الوزاري الموسع بشأن سوريا بمشاركة 18 دولة عربية وأجنبية وهيئات دولية، وعندما تكون الرياض الوجهة الأولى التي يقصدها وفد رفيع المستوى ممثلاً لحكومة تسيير الأعمال بالإدارة السورية الجديدة؛ فذاك يؤكِّد الدور السعودي المحوري في القضية السورية منذ بدايتها في فبراير 2011م، ويعكس المواقف السعودية المشرِّفة على المستويات الرسمية والشعبية والإنسانية تجاه الشعب السوري، والثقة التي تتمتع بها المملكة لدى هذا الشعب العربي الحرّ، كما أن هذا الدور يدل على السياسة السعودية المتزنة في التعامل مع القضايا الإقليمية أو الأزمات الدولية، بين المساهمة الفعَّالة في إنهاء القضية أو الأزمة، وبين المحافظة على مبدأ عدم التدخل في شأن الدولة. وهذا ما حدث مع القضية أو الأزمة السورية؛ فالسعودية بحكم مكانتها الدولية المرموقة، وثقلها المؤثِّر في محيطها الإقليمي، وأهمية علاقاتها بالنسبة للدول العربية؛ فقد كانت سبَّاقة نحو حل الأزمة السورية وهي في مهدها وعدم تفاقمها، كي تتجاوز سوريا موجة ما يُسمى (ثورات الربيع العربي)، التي عصفت بأكثر من بلد عربي، وأودت به إلى الفوضى والخراب وانعدام الأمن. ولكن إصرار النظام الأسدي على استخدام العنف الدموي تجاه الشعب السوري، وقمعه وزج الآلاف بالسجون، ومن ثم توسيع رقعة الأزمة بفتح الأراضي السورية للميليشيات الإيرانية، والعراقية، وقوات (حزب الله)، ثم الوجود الروسي، ما تسبَّب في اندلاع مواجهة عسكرية شاملة بين قوات نظام الأسد والثوار على مدار سنوات انتهت بسقوط هذا النظام عام 2024م. خلال تلك السنوات سعت السعودية جاهدةً إلى الحشد الإقليمي والدولي بكل المحافل العالمية لأجل وقف نزيف دماء السوريين، ودفع الدول الكبرى إلى إنهاء معاناة الشعب السوري على يد النظام وداعميه من ميليشيات طائفية، والعمل على تطبيق قرار الأمم المتحدة (2254)، الذي يقضي بإجراء انتخابات نزيهة، والتحول السياسي للسلطة مع خروج كل الميليشيات والوجود الأجنبي من الأراضي السورية.
أما على المستوى الشعبي فقد استقبلت المملكة قرابة مليونين ونصف المليون سوري، وجدوا كل رعاية واهتمام وحياة كريمة، ولعل منصات التواصل الاجتماعي تحفل بالآلاف من المقاطع العفوية لإخوة سوريين عبَّروا ويعبِّرون فيها عن عظيم امتنانهم، وتقديرهم لمملكة الإنسانية على مواقفها المشرِّفة مع الشعب السوري على مدار 13 عامًا، ولعل مقطع واحد لأخ سوري مقيم بالمملكة يختصر المسألة كلها، ويعكس واقع جميع السوريين بالمملكة؛ عندما أكد أنه عاش وعائلته هنا بكل كرامة وتقدير، يقول: «عشت 12 عامًا رُزقت خلالها بثلاثة أولاد، تلقوا تعليمهم في مدارسها، وحظوا برعاية صحية مجانية، عشت 12 عامًا لم يقل لي أحد لاجئ أو مشرَّد، بل وجدت كل مساعدة واحترام وفرصة للعيش بكرامة». وهذا يذكرنا بالرد المفحم لمعالي الأستاذ عادل الجبير وزير الدولة للشؤون الخارجية في إجابته على إحدى الصحفيات عن موقف المملكة من اللاجئين السوريين، مؤكدًا معاليه أن السوريين في المملكة ليسوا لاجئين، بل مقيمين، ليس فيهم لاجئ واحد أو من يعيش في خيمة، بل تم منحهم تصاريح إقامة بأمر من خادم الحرمين الشريفين لأجل أن يتمكَّنوا من التعلّم وتلقي الرعاية الطبية وفرص العمل. إن حديث ذلك الأخ السوري الشريف الذي يعكس أصالة معدن السوريين ونبل مشاعرهم، وصدق وفائهم، هو في واقع الحال يختصر بعبارات بسيطة موقف المملكة المشرِّف من القضية السورية من بدايتها حتى سقوط نظام بشار، بل يؤكد سياسة راسخة وثابتة لهذا الوطن العظيم ومملكة الإنسانية بقيادتها الرشيدة، التي طالما وقفت وما زالت تقف مع الشعوب في قضاياهم العادلة وأزماتهم الطارئة وبالذات العربية.
أما على المستوى الإنساني فحدث ولا حرج ولا مبالغة، فالمساعدات السعودية بكل أشكالها لم تتوقف قوافلها البرية، أو تنقطع جسورها الجوية عن الشعب السوري منذ اندلاع الثورة وإلى ما بعد سقوط النظام، وذلك عبر مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية. فعلى مستوى المساعدات المالية قدَّمت المملكة أكثر من مليار ونصف المليار دولار، بما في ذلك المساعدة بتمويل برامج الأمم المتحدة، كما قدّمت ثلاثة مليارات دولار كمساعدات إنسانية تشمل الغذاء والمأوى والرعاية الطبية والتعليم، فضلاً عن الخدمات الطبية والعمليات الجراحية للنازحين شمال سوريا. وأيضًا قدَّمت مساعدات مالية وعينية للمناطق المحرَّرة، بما في ذلك تأهيل البنى التحتية، مثلما قدَّمت الدعم للمناطق المتضرِّرة من الحرب من خلال تمويل مشروعات إعادة الإعمار كما في حلب وحمص، وكذلك قدَّمت الدعم للمناطق الجبلية الباردة من خلال عمليات إنسانية متنوِّعة. إلى جانب دعم المملكة للمنظمات الدولية العاملة في سوريا. كل هذه المواقف السعودية بمستوياتها الرسمية والشعبية والإنسانية تعكس العظمة الحقيقية للمملكة العربية السعودية بقيادتها الرشيدة، ومواقفها المشرِّفة في كل القضايا العربية والإقليمية والدولية. واليوم بعد سقوط النظام واصل الجسر الجوي السعودي مهمته النبيلة بطائرات الخير التي تملأ الأجواء السورية، كما واصلت قوافل الأخوة السعودية تتابعها نحو الأراضي السورية بأعداد كبير من الشاحنات التي تعبِّر عن مشاعر سعودية صادقة وأخوّة إسلامية وعربية استثنائية.