د.حادي العنزي
أصبح مشهد الشباب في المقاهي جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، حيث تحولت القهوة من مجرد مشروب تقليدي إلى رمز ثقافي واجتماعي يعكس أنماط الحياة الحديثة، وأصبحت المقاهي تنتشر في كل زاوية من المدن الكبرى، مثل الرياض وجدة والخبر، وتُقدم أصنافاً متعددة، بدءاً من القهوة السعودية التقليدية وحتى القهوة المختصة والمشروبات العالمية.
وهذه الظاهرة بدأت تتنامى بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة، مما يعكس تغيراً في القيم الثقافية والاجتماعية المحلية، ويثير تساؤلات حول دوافع هذا الاتجاه وتأثيراته على المجتمع، خاصة بعد ظهور الشاي كمنافسٍ جديد للقهوة، والذي أصبح يُباع في محلات مخصصة، ويتم إعداده بطرق تقليدية على الجمر أو الفحم، مما يُعزز ارتباطه بالتراث، ويضفي عليه طابعاً أصيلاً يجذب شريحة واسعة من أفراد المجتمع.
الإحصاءات بصفة عامة تشير إلى زيادة استهلاك القهوة عالمياً، وأن السعودية واحدة من أكبر مستهلكي القهوة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتوقع أن ينمو سوق القهوة السعودي سنوياً بنسبة (5.5 %) حتى عام 2027، مدفوعاً بالإقبال الكبير من الفئة الشبابية (من 18 إلى 34) عاماً.
هذا النمو يشمل دعم الاقتصاد المحلي من خلال إيجاد فرص عمل جديدة للشباب، سواء كموظفين أو أصحاب مشاريع صغيرة. حيث تُقدر عائدات المقاهي
بـ(5) مليارات ريال سنوياً.
كما تُشير التقديرات إلى أن الشخص يُنفق يومياً ما بين (15-25) ريالاً للمشروب الواحد في المقاهي الشهيرة، وهذا يعني إنفاقاً شهرياً يتراوح بين (300 - 500) ريال للفرد. فإذا كانت الأسرة تضم عدة شباب، فإن هذا الإنفاق سيُشكل عبئاً مالياً على أولياء الأمور.
أضف إلى ذلك الارتفاع المستمر في أسعار القهوة في المقاهي، الذي يتراوح بين (20-30 %) سنوياً، الأمر الذي يعكس استجابة (أو استغلال) بعض أصحاب المقاهي للطلب المتزايد على القهوة. هذا الارتفاع يستوجب تدخلاً عاجلاً من الجهات الرقابية لضبط الأسعار وحماية المستهلكين.
وفي الوقت نفسه، أصبحت المقاهي وجهة رئيسية للشباب يقضون فيها أوقاتاً طويلة تمتد أحياناً إلى ساعات متأخرة من الليل، وهو سلوك لا يقتصر على الاستمتاع بالقهوة فقط، بل يحمل انعكاسات اجتماعية تؤثر سلباً على الروابط الأسرية. فقد أدى التردد المتزايد على المقاهي إلى تقليص دور الأسرة في إعداد المأكولات والمشروبات، مما أسهم في تراجع اللحظات المشتركة والتجمعات العائلية حول مائدة الطعام، وثم اندثار العديد من العادات التقليدية التي كانت تشكّل أساساً جوهرياً في الهوية الثقافية للمجتمع.
هذه الثقافة الجديدة تسهم في تعميق التباعد في العلاقات الأسرية، بعد أن أصبحت عند بعض الأسر بديلاً عن الدفء الذي كان يجمع العائلات. ومع مرور الوقت، قد نرى انعكاسات سلبية من هذا التغيير على القيم الاجتماعية والثقافية التي تربط الأجيال ببعضها، وهذا يستدعي إعادة النظر أيضاً في أسلوب حياتنا وتقدير اللحظات التي تجمعنا في منازلنا.
من ناحية أخرى، فإن القهوة والشاي يحتويان على الكافيين، الذي يُعزز النشاط والتركيز ويحسن المزاج. ومع ذلك، فإن الإفراط في استهلاك هذه المشروبات والتعود عليها يؤدي إلى أضرار عديدة، خاصة مع ربط الدماغ بين تناولها والشعور بالسعادة أو الإنتاجية، وربما تتبعها أعمال غير محمودة، ويستغلها بعض الأقران وغير الأسوياء من المروجين لمفاهيم النشوة وبيع السعادة الوهمية للشباب.
ورغم وجود بعض السلبيات، إلا أنه لا يمكن إنكار الدور المحوري للمقاهي وما توفره لفئة الشباب من أماكن تجمعهم في إطار نمط حياة عصري وحضاري؛ يمنحهم أجواءً ملائمة تُلبي احتياجاتهم وتستجيب لرغباتهم وميولهم.
كما أن انتشار المقاهي وإقبال الشباب عليها يومياً أصبح واقعاً ثقافياً، يتطلب تكثيف الجهود والتعاون للعمل سوياً على تشكيل بيئة جديدة توائم تطلعاتنا الوطنية في شباب المستقبل، وذلك من خلال الأسرة التي تُعد نواة المجتمع، وتوعية أفرادها بالممارسات الإيجابية للوالدين والأبناء، وكذلك المدرسة في تبني برامج تعليمية تثقيفية تُعزز وبعمق القيم الاجتماعية وترسخ الهوية الوطنية.
كما أن الجهات المعنية مُطالبة برقابة الأسعار وتنظيم المقاهي وفرض ضوابط على آليات وتحديد أوقات العمل، مع ضرورة تضييق الفجوة أمام مبالغات الإعلانات التجارية ومشاهير «الفلس» في وسائل التواصل الاجتماعي، ممن يُمجدون علامات تجارية معينة، ويجمعون الشباب في مقاه محددة قد تخدم مآرب أخرى.