جانبي فروقة
قبل سقوط نظام الأسد وفي لقاء تلفزيوني مع بشار الأسد أجاب المذيع ساخرا: ولماذا سألتقي أنا وأردوغان؟ لكي نشرب المرطبات مثلا؟ وهذا يعكس بشكل كبير الفشل الدبلوماسي والسياسي الكبير لنظام دكتاتوي استمر لأكثر من خمسة عقود جاثما على صدر السوريين، فإرث عائلة الأسد في سوريا هو مزيج من القمع السياسي، التدهور الاقتصادي، والانقسام المجتمعي.
وفي تقييم سريع لحقبة بشار الأسد في الحكم من عام 2000م حتى الآن نجد أن عائلة الأسد حولت سوريا لأكبر مصنع ومصدر للكبتاغون، وحسب الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية فقد بلغ عدد القتلى أكثر من 500 الف شخص حيث ارتكب النظام مئات المجازر مثل مجزرة الغوطة الشرقية التي استخدمت فيها الأسلحة الكيميائية ويقدر عدد المفقودين بـ100 الف مفقود ومعتقل في سجون النظام، وأضحت سوريا أكبر مصدر للاجئين في العالم حيث كان هناك أكثر من 6.8 مليون لاجئ في تركيا ولبنان والأردن وأوربا وحوالي اكثر من 6 مليون نازح داخليا يعيشون ظروف إنسانية قاسية، وحسب البنك الدولي فخسائر سوريا وصلت 600 مليار دولار منذ اندلاع الثورة وتم تدمير 2 مليون وحدة سكنية، في عام 2011م بلغت قيمة الاقتصاد السوري 67.5 مليار دولار (63.9 مليار يورو) - وهو نفس العام الذي اندلعت فيه الاحتجاجات واسعة النطاق ضد نظام الرئيس بشار الأسد، والتي أشعلت شرارة تمرد المتمردين الذي تصاعد إلى حرب أهلية كاملة.
احتلت البلاد المرتبة 68 بين 196 دولة في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ما يضاهي باراجواي وسلوفينيا. وبحلول العام الماضي، انخفض الاقتصاد إلى المرتبة 129 في جدول الدوري، بعد أن انكمش بنسبة 85 % إلى 9 مليارات دولار فقط، ويؤثر الفقر على 69 % من الشعب السوري حسب تقديرات البنك الدولي ،وهذا يضع البلاد على قدم المساواة مع أمثال تشاد والأراضي الفلسطينية. وانخفض إنتاج البلاد من 116 ألف برميل يوميا إلى 7 آلاف برميل اليوم (وتقدر احتياطيات سوريا من النفط ب 203 مليار دولار و8.5 تريليون قدم مكعب من الغاز واحتياطي، وكانت هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية قد قدرت وجود 3.4 تريليون قدم مكعب من الغاز في شرق البحر المتوسط الفوسفات يصل إلى 1.7 مليار طن) كما انخفض انتاج سوريا السنوي من القمح (الذهب الأصفر) إلى 700 ألف طن بعد أن كان أكثر من 3 ملايين طن واحتياجات سوريا السنوية تقدر بـ1.6 مليون طن.
وثلث مساحة البلاد في سوريا والتي تقدر بـ6.5 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة وقد تسبب الصراع في انخفاض كبير في قيمة الليرة السورية، مما أدى إلى انخفاض كبير في القوة الشرائية.
والأثر السياسي لسقوط نظام الأسد كان مدويا بالنسبة لإيران وروسيا وقد مثل هزيمة استراتيجية كبرى لإيران، فمن ناحية اقتصادية خسرت إيران أكثر من 50 مليار دولار في دعم حكومة الأسد، وتشمل إمدادات النفط والمساعدات العسكرية رغم أن التكلفة العسكرية الحقيقية للحرس الثوري الإيراني في سوريا غير معروفة تماما. هذا الدعم، الذي استمر لعقد من الزمن، تحول الآن إلى خسارة فادحة دون تحقيق أي عائد ملموس. ومن ناحية أخرى، خسرت إيران دورها الإقليمي وأهدافها الجيوسياسية بخسارة سوريا الحليف القوي في المنطقة وشريان الإمداد لحزب الله في لبنان، وتزامنت هذه الخسائر الخارجية مع أزمات داخلية متفاقمة منها ارتفاع معدل التضخم والفقر. وكما تقدر خسائر روسيا بـ20 مليار دولار بالإضافة للإنفاق العسكري الهائل خلال عقد من الزمان واحتمال خسارة القاعدة الجوية في حميميم والقاعدة العسكرية البحرية لها في طرطوس المنفذ الوحيد لها على البحر الأبيض المتوسط.
البلاد اليوم تواجه تحديات هائلة لإعادة بناء ما دمرته الحرب، يقدر الخبراء تكاليف إعادة إعمار سوريا بـ400 مليار دولار، و خطة النمو الاقتصادي لسوريا يجب أن تعتمد على إحياء القطاعات الحيوية وإعادة البنية التحتية، وكذلك التفكير خارج الصندوق وتحقيق اختراقات إبداعية لدفع عجلة التعافي وتحقيق الاستدامة.
يجب التركيز على إعادة تأهيل البنية التحتية من كهرباء ومياه ونقل واستقرار الخدمات الأساسية ووضع أطر قانونية جاذبة للاستثمارات والعمل مع المؤسسات والهيئات الدولية لتأمين القروض القصيرة والطويلة الأجل وإعادة تنشيط الزراعة والصناعات الصغيرة ودعم الشركات الناشئة وتنشيط السياحة وترميم المواقع الأثرية واستثمار الساحل السوري، وبناء بنية تحتية قوية (من طرق وسكك حديد وموانئ ونقل بري) وتأهيل وبناء مطارات جديدة وتكوين شركة طيران قوية وشراكات مع شركات الطيران العالمية لتطوير السياحة والاستثمار في الطاقة النظيفة ورقمنة الخدمات الحكومية، وإنشاء حكومة ألكترونية وبناء قاعدة صناعية وزيادة الصادرات، وبناء قطاع التعليم وتطوير برامج لبناء واستثمار الطاقات البشرية.
سلط معهد ماكينزي العالمي للأبحاث مؤخرا الضوء على صناعات جديدة وواعدة أشار إليها «ساحات المنافسة الجديدة» فبينما تقود الصناعات التقليدية عجلة الاقتصاد، تأتي ساحات المنافسة الجديدة هذه لتعيد تشكيل قواعد اللعبة، مما يتطلب من القادة تبني عقلية مبتكرة واستراتيجيات مرنة لتحقيق النجاح في هذا العصر المتغير.
هذا التحول ليس فقط فرصة للنمو، بل أيضًا دعوة لبناء مستقبل اقتصادي أكثر شمولًا واستدامة؛ فقد أصبحت الصناعات تعتمد على التقنيات الرقمية والابتكار والذكاء الاصطناعي، ومنها السيارات الكهربائية وذاتية القيادة والتجارة الألكترونية وأشباه الموصلات والروبوتات والفضاء والأدوية المبتكرة، وهذه الصناعات التي كانت هامشية قبل سنوات قليلة أصبحت اليوم تمثل 45 % من النمو في القيمة السوقية العالمية، ويتوقع أن تستمر هذه الصناعات في الهيمنة على الاقتصاد العالمي حتى عام 2040م.
يمكن للمرطبات الباردة على طاولة الحوار الآن أن تساعد في رسم مستقبل أفضل لسوريا.
** **
- كاتب أمريكي