د. عيد بن مسعود الجهني
غربت شمس عام 2024 وبزغت شمس عام جديد لكن غروبها لم يحدث إلا بعد أن خلف أحداثا كانت كارثة غزة أعظمها، أما حرب روسيا وأوكرانيا فهي قصة أخرى بطلها روسيا والغرب ومعه بالطبع أمريكا اللاعب الرئيس.
ويأبى العام المنصرم إلا أن يسجل قبل أفوله قرار محكمة الجنايات الدولية بإدانة نتنياهو بجرائم عديدة، ومنها القتل الجماعي والتدمير الكامل لمدينة غزة، ولذا جاء قرار القبض عليه ومحاكمته أمام تلك المحكمة مفرحا للفلسطينيين إلى حد ما.
وقد خرج من رحم ذلك العام تدمير إسرائيل للجنوب اللبناني وأجزاء من وسط ذلك البلد العربي قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار لمدة ستين يوماً.
أما الحدث الذي كان سببا لفرحة السوريين جاء بعد السقوط المدوي لطاغية الشام وهروبه إلى أمه روسيا ليكشف الغطاء عن عشرات الآلاف من القتلى إعداماً ناهيك عن عشرات الآلاف من القابعين في السجون تحت وفوق الأرض.
كانت تلك الأحداث الجسام سلاح الجزار نتنياهو ليعلن أنه أسقط النظام السوري السابق وكسر شوكة حزب الله وحجم إيران، وكما أجهز على قادة حزب الله وأنه سيفعل ذلك مع الحوثيين، هذا بعد أن أعلن خريطته للشرق الأوسط التي يخلو منها فلسطين، أما المناوشات بين إسرائيل وإيران فإنها لا تعدو أن تكون أكثر من إبرازاً للقوة.
التاريخ يلقي علينا عبره ودروسه إسرائيل التي انتهزت فرصة ليلة سقوط طاغية حكم هو ووالده الهالك بلاد الشام لمدة تزيد على (50) عاماً ليحتل مساحة تزيد على (400) كيلو متر مربع من أرض سوريا مطلة على القنيطرة التي سبق أن تحررت في حرب 1973، فها هي إسرائيل التي لا تزيد مساحتها عن 22 ألف كيلو تقتطع أجزاء من فلسطين ولبنان وسوريا، وقد يسجل التاريخ أحداثاً أكبر تديرها الدولة العبرية.
والسودان صاحب الخيرات الكثيرة، ومنها النفط لا زالت رحى الحرب تدور بين أصدقاء الأمس أعداء اليوم، صراعاً على السلطة في ظل تدخلات إقليمية ودولية، ومواطنيه نسبة كبيرة منهم غادروا بلادهم بحثاً عن الأمن والاستقرار.
وإذا كان العام الذي غادرنا شهد بعضاً من الأحداث فإن أكبر المعارك التي دارت خلاله معركة النفط بقوته ونفوذه، فقد شهدت أسعاره وإنتاجه تطورات قادتها الأوبك والمتحالفون معها للدفاع عن أغلى وأهم سلعة عرفها التاريخ الإنساني، النفط - هذه السلعة السحرية - غيرت وجه الحضارة الإنسانية وأشاع نورها الدنيا كلها، كل قطرة منها تعني القوة والنماء والازدهار، أكثر السلع تداولاً على المستوى العالمي.
هذه المادة (النفيسة) أهميتها ومستقبلها وإنتاجها وأسعارها واستهلاكها وفناؤها حقيقة وخيالاً ومبارزة الزيت الصخري والرملي لها، ومعهما المصادر المتجددة، واللاعبون الرئيسيون الموجهون لسوق النفط الدولية ودورها المؤثر في السياسة والاقتصاد الدوليين، والتطورات المتسارعة في سوق النفط الدولية يتساءل الكثيرون عن إجابات لها.
وفي رأينا أن كل برميل من النفط يشكل أهمية كبيرة، لذا فقد شهدت حلبة الصراع العالمي على البترول معارك جديدة نوعاً وكيفاً، كان النفط هو القاسم المشترك فيها، وهو صراع استخدم لأول مرة أسلحة جديدة وأساليب مختلفة عن جميع الحروب السابقة، يديرها لاعبون كبار في مقدمتهم أوبك والمتحالفون معها ووكالة الطاقة الدولية (IEA) وشركات النفط العملاقة التي تحمل جنسية الدول الصناعية يوجهون معها دفة سوق النفط الدولية.
ومع تلاطم الأحداث فإن الملف النفطي تقوده السعودية ومعها روسيا ودول الخليج العربي تعتبر الفارس الرابح في السباقات خلال القرن الذي غابت شمسه والسبب واضح، فقد كان الحلف متوحداً استطاع السيطرة على مستويات التذبذبات في أسعار نفوطهم، وهذا راجع لحجم احتياطيات تلك الدول أعضاء الحلف بقيادة السعودية - صاحبة توازن الإنتاج والأسعار احتياطيها أكثر من (267) مليار برميل، والإمارات (113)، والكويت (101) وروسيا (80) مليار برميل.
الأوبك بتاريخها العريق والتي تسيطر على نسبة (79.1) في المئة من الاحتياطي العالمي البالغ أكثر من (1.5) ترليون برميل وهذا يوضح لنا قوة المنظمة والمتحالفين معها، وفي ظل ما شهدته السوق البترولية من رغبة من كل اللاعبين في هذا السوق منتجين ومستهلكين هدفها سوق نفطية مستقرة تخدم مصالح الجميع ضمن أسعار عادلة من شأنها دعم نمو اقتصادي عالمي معقول، يمكن القول: إن مستقبل الأسعار إذا تحققت تلك الأسباب ستحقق للجميع سوقا نفطية مستقرة إلى حد كبير.
نقول هذا في ظل تعاون المستقلين مع الأوبك خفضاً ورفعاً للإنتاج طبقا لتقلبات العرض والطلب اللذين يؤثران على الأسعار سلباً وإيجاباً، ويبدو أن المنتجين للنفط التقليدي عموماً الأوبك والمتعاونون معها يراقبون تلك السوق حماية لمصالحهم المشتركة، وعلى الجانب الآخر فإن (أمريكا) صاحبة النفط الصخري التي ليست من ضمن دول النادي النفطي تتابع سوق النفط صعوداً وهبوطاً لكون السعر المتدني لا يخدم مصالح صناعتها النفطية لارتفاع تكلفته مقارنة مع النفط التقليدي.
ورغم كل هذا يبدو أن مستقبل أسعار النفط في طريقها للتوازن المحسوب في ظل الشراكة (القوية) التي أثبتت جدواها بين المستقلين ومنظمة الأوبك والذي من نتيجته تحسن الأسعار واستقرارها عند مستوى مقبول للمنتجين والمستهلكين خاصة في ظل التعاون السعودي - الروسي، الذي يمكن وصفه (بالإستراتيجي) هدفه سوق مستقرة وسعر عادل يقبله المنتجون والمستهلكون.
العارفون بعلم النفط واتجاهات أسعاره وإنتاجه يخرجون بنتيجة مؤداها ان التعاون السعودي - الروسي له القدح المعلى في دعم التحالف ليحقق نجاحاً واضحاً في مسيرة سفينة الأسعار لتصبح مستوياتها مقبولة لدى المنتجين والمستهلكين، هذا لم يحدث بين عشية وضحاها وإنما خرج من رحم تخفيضات وتضحيات جسيمة قدمها الحلف النفطي خاصة السعودية القائدة من أجل سوق نفطية دولية مستقرة، ففي الخامس من ديسمبر الماضي مددت تخفيضات الإنتاج بـ (2) مليون برميل يوميا مستمر لعام كامل حتى نهاية ديسمبر 2026.
ليس هذا فحسب فثماني دول (السعودية - روسيا - العراق - الإمارات - الكويت - كازاخستان - الجزائر - عمان) مددت تخفيضاتها البالغة (2.2) مليون برميل يومياً والذي سبق أن أعلنته في شهر مارس 2023 وستعيده تدريجياً على أساس شهري حتى نهاية سبتمبر 2026.
ناهيك أن هذه الدول قررت تمديد تخفيضات الإنتاج الطوعي (1.65) مليون برميل يومياً الذي سبق وأعلنته في أبريل (2023) حتى نهاية ديسمبر 2026.
ولا شك أن تخفيضات الإنتاج كانت سبباً رئيساً في توازن أسعار النفط في سوق البترول الدولية، بل إنها تغلبت على التقلبات الحادة في الأسعار خلال 2024 صعوداً وهبوطاً.
ورغم ذلك انخفضت الأسعار خلال 2024 بنسبة (3) في المئة، وهذا الانخفاض برأينا معقول ومقبول لدى الحلف خاصة أن مستوى الأسعار في العام الماضي كسر حاجز (77) دولاراً للبرميل مع نهاية العام.
وأنا مع المتفائلين دائما بأن سلعة النفط هي أهم وأغلى سلعة عرفها التاريخ الإنساني وستبقى في هذا القرن المليء بالأحداث الجسام وسعر برميل النفط إذا بقيت أسباب ارتفاعه وانخفاضه على حالها، فإن استقرار سعره ما بين 65 و75 دولارا للبرميل ليس صعب المنال، وهذا في رأينا في مصلحة الجميع المنتجين والمستهلكين، وإذا لعبت طهران بالنار في مضيق هرمز الشريان المائي الدولي الهام فستكون لأسعار النفط صولات وجولات مثيرة في ارتفاع الأسعار.
إننا أيضاً مع المتفائلين من الخبراء القائلين إن أسعار النفط ستبقى متماسكة، وأن الأوبك والمتحالفين معها سيبقون في العقود الخمسة القادمة على الأقل السلعة الأهم في تزويد العالم بالطاقة خصوصا الدول الصناعية التي تستهلك (75) في المئة من إجمالي الاستهلاك العالمي من هذه السلعة (النفط) التي سيطرت على الأحداث العالمية على المستويين السياسي والاقتصادي منذ انطلاق أول رصاصة في الحرب الكونية الأولى لتصبح سلعة إستراتيجية لا تجاريها سلعة أخرى، ولتحل محل الفحم الذي كان الوقود صاحب اليد الطولى، وتعاظمت أهمية سلعة الذهب الأسود مع اندلاع الحرب الكونية الثانية التي كان للنفط الأمريكي في زمانها القدح المعلى فيها، ليكسب الحلفاء تلك الحرب المدمرة ولينهار النظام النازي إلى الأبد.
إن النفط الذي لعب دورا خطيرا في صياغة السياسة العالمية خلال القرن المنصرم مما أكد بشكل لا نزاع فيه الارتباط الوثيق للنفط بالسياسة، وهذه السمة ستبقى في هذه الألفية، بل ستزداد أهميتها لأن الذهب الأسود سيبقى أغلى وأهم سلعة عرفها التاريخ الإنساني أهم مصدر للطاقة في ظل موجة الاستخدام المسرف للبترول، وستبقى أسعاره متماسكة تشهد ارتفاعات نسبية أكثر من فترات الهبوط، وكل ما تحتاجه الدول الرئيسية المنتجة له هو الاستثمار في هذه السلعة وإدارتها إدارة حكيمة لتبقى رافداً للأجيال الحاضرة والمستقبلية وللاقتصادات والتطور والتنمية المستدامة.
هذه السلعة السحرية يتضح من الاستعراض الموجز السابق أن مركزها الرئيسي الديار العربية خاصة دول الخليج العربي الذي يمثل قوة وتفوقا في السوق الدولية للنفط.
ويتضح ذلك جلياً من نسبة دول الأوبك والدول العربية من الاحتياطي النفطي العالمي المؤكد البالغ (1.564.441) ترليون برميل ونصيب الأوبك لوحدها من الإحتياطي المؤكد عالمياً (1.241.333) ترليون برميل ونسبته (79.1) في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي طبقاً لإحصائيات 2023، ودول مجلس التعاون الخليجي أكثر من (514) مليار برميل، حوالي (41) في المئة من احتياطي الأوبك، والدول العربية حوالي (725.1) مليار برميل حوالي (46.3) في المئة من الإجمالي العالمي ودول الخليج العربي أكثر من (868) مليار برميل والتي بلغت نسبته (55.4) في المئة من الاحتياطي العالمي المؤكد.
وهنا مربط الفرس فهذه الدول ومعها دول التحالف تمسك بزمام تطورات الإنتاج والأسعار هبوطاً وصعوداً حسب متغيرات سوق النفط الدولية، فعندما تبرز الحاجة لخفض الإنتاج عندما تشهد الأسعار تدنياً لا يقبله الحلف، هنا يشمر الحلف ويقوم بالتخفيض حتى تتعافى الأسعار.
وعلى العكس عندما ترتفع الأسعار بشكل مفاجئ كما حدث في عام 2008 عندما كسر السعر حاجز 147 دولارا للبرميل، هنا ينهض الحلف ليضخ براميل أكثر في السوق دعما لاستقرارها.
والله ولي التوفيق.
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة