د. محمد بن أحمد غروي
تُعد الشراكة السعودية السنغافورية الأخيرة تطورًا لافتًا في السياسة الدولية للمملكة، والتي تسير وفق نهج جديد يرتكز على التنويع الاستراتيجي في بناء العلاقات الخارجية، وتحمل هذه الشراكة، التي تم إطلاقها تحت قيادة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان ورئيس وزراء سنغافورة، في طياتها دلالات سياسية واقتصادية عميقة، تتجاوز التعاون التقليدي إلى خلق نموذج متكامل للتفاعل بين الشرق الأوسط وآسيا.
اللافت في الموضوع، أنه لا يمكن فصل توقيت هذه الشراكة عن التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، فالمملكة، التي أعادت صياغة أولوياتها الاستراتيجية عبر رؤية 2030، للبحث عن شركاء دوليين يمتلكون الخبرة والتجربة في مجالات حيوية مثل: الابتكار، والتحول الرقمي، والاستدامة.
ومن جهة أخرى، تُدرك سنغافورة أن المملكة تُعد قوة إقليمية صاعدة بفضل مشاريعها الطموحة مثل «نيوم» ومبادرة «السعودية الخضراء»، وأن الدخول في شراكة استراتيجية مع الرياض يعزز من قدرتها على التوسع في أسواق الخليج، والاستفادة من المشاريع التنموية الكبرى.
من الناحية السياسية، تُعد هذه الشراكة بمثابة تعزيز لنفوذ المملكة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي تُعد واحدة من أكثر المناطق ديناميكية اقتصاديًا وسياسيًا، فسنغافورة، كدولة محورية في رابطة آسيان، يمكن أن تُسهم في فتح أبواب جديدة أمام السعودية للوصول إلى سوق آسيوي يضم أكثر من 600 مليون مستهلك.
وفي المقابل، تعكس هذه الشراكة رغبة سنغافورة في تعزيز علاقاتها مع قوة إقليمية مثل السعودية، خاصة في ظل التنافس المتزايد بين القوى الكبرى على النفوذ في الشرق الأوسط وآسيا.
اقتصاديًا، تُعد هذه الشراكة خطوة استراتيجية تُمكّن كلا البلدين من تحقيق أهدافهما التنموية، فالمملكة، التي تُركز على تنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على النفط، تجد في سنغافورة شريكًا مثاليًا بفضل خبرتها في التكنولوجيا والابتكار.
على الجانب الآخر، ترى سنغافورة في المملكة سوقًا واسعًا وواعدًا للاستثمار في مجالات مثل الطاقة المتجددة، والتقنيات الزراعية، وأشباه الموصلات.
وتؤكد لغة الأرقام هذا الاتجاه، حيث تجاوز حجم التبادل التجاري بين المملكة ودول آسيان 143 مليار ريال، مما يعكس الإمكانات الهائلة لتعميق هذه العلاقات.
لم تقتصر الشراكة على الجوانب الاقتصادية والسياسية فقط، بل امتدت لتشمل المجالات الثقافية والتعليمية، حيث تسعى السعودية، لتعزيز تواجدها الثقافي عالميًا، تجد في سنغافورة بوابة لتعزيز الحوار الثقافي مع آسيا.
كما أن الاستثمار في التعليم وتبادل الخبرات العلمية بين البلدين يُعد ركيزة أساسية لبناء شراكة طويلة الأمد، خاصة في المجالات التقنية التي تُعد سنغافورة رائدة فيها.
رغم الآفاق الواعدة لهذه الشراكة، إلا أنها لا تخلو من التحديات، ومن أبرزها: اختلاف الأولويات الاقتصادية والسياسية بين البلدين، كون المملكة، التي تُركز على المشاريع الضخمة طويلة الأمد، قد تجد صعوبة في مواءمة نهجها مع سنغافورة التي تفضل المشاريع قصيرة الأمد ذات العائد السريع.
بالإضافة إلى ذلك، قد تبرز تحديات تتعلق بالتنسيق في السياسات المتعلقة بالمناخ والبيئة، حيث تتباين المواقف أحيانًا بين الدول النامية والدول المتقدمة.
تمثل الشراكة السعودية السنغافورية نقلة نوعية في العلاقات الدولية للمملكة، حيث تعكس توجهًا جديدًا يقوم على بناء تحالفات استراتيجية مع دول تمتلك خبرات متقدمة في مجالات الابتكار والتقنية.
هذه الشراكة ليست مجرد اتفاقيات اقتصادية أو زيارات دبلوماسية، بل هي نموذج جديد للعلاقات الدولية التي تُبنى على التكامل والتعاون طويل الأمد.
للمملكة، تُعد هذه الشراكة جزءًا من استراتيجيتها لتنويع علاقاتها الدولية وتعزيز مكانتها كقوة عالمية. أما بالنسبة لسنغافورة، فهي فرصة لتوسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وتعزيز مكانتها كمركز عالمي للتكنولوجيا والابتكار.
في ظل التغيرات السريعة في المشهد الدولي، من المتوقع أن تُشكل هذه الشراكة ركيزة لتحالف أوسع بين الشرق الأوسط وآسيا، وإذا ما تم استغلال هذه الفرصة بشكل صحيح، فقد تكون هذه الشراكة نقطة تحول ليس فقط في العلاقات بين البلدين، بل في المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي ككل، لأن المعادلة اليوم قائمة على أن التحالفات لا تُبنى على الجغرافيا فقط، بل على المصالح المشتركة والابتكار الذي يقود التنمية.