عبدالوهاب الفايز
لا تستغربوا.. نعم، يوجد في أميركا أوليغارشية (تنطق أيضا الأوليغاركية) بنتها العلاقات العائلية، والتجارية، ومناهج وسياسات القبول في جامعات النخبة الثرية، فهذه يجتمع لها الآن المجد من كل أطرافه: الثروة الهائلة والسلطة والنفوذ والسلاح النووي!
في خطاب الوداع الذي ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن الأربعاء الماضي قال أمراً لافتاً جديراً بالوقوف عنده. قال: «اليوم، تتشكل في أميركا أوليغاركية من الثروة الهائلة والسلطة والنفوذ المفرط، مما يهدد ديمقراطيتنا بالكامل، وحقوقنا الأساسية وحرياتنا، والفرصة العادلة للجميع للتقدم». كذلك تخوف من عواقب استغلال الأثرياء نفوذهم للحصول على إعفاءات ضريبية، والتراجع عن الجهود الرامية لمكافحة تغير المناخ، والحد من المساءلة، واستشهد بتحذير الرئيس السابق دوايت أيزنهاور في خطاب وداعه من «المجمع الصناعي العسكري»، مؤكداً أن التهديد الآن يأتي من «المجمع الصناعي التكنولوجي».
فعلاً، هذا أمر مثير للاهتمام، ويعترف بوجوده في أمريكا رئيس أمريكي ظل لسنوات يتهم الرئيس الروسي بوتين بقيادة أوليغارشيه روسية فاسدة سياسيا وماليا. وهو أيضا نفس العذر الذي استخدمته أمريكا وحلفائها الغربيين لمصادرة الأموال والثروات الروسية في أوروبا وأمريكا بدعوي أنها أموال الأوليغارشية الروسية!
والسؤال: هل فعلا في أمريكا طبقة أوليغاركية متنفذة؟
في خطاب وداعه عام 1961، حين حذر الرئيس أيزنهاور من التعاون المتزايد بين الجيش والصناعات العسكرية واحتمالات تأثيراته السلبية على السياسة الأمريكية، هذا التحذير أصبح مرجعا في أدبيات السياسيين والمؤرخين الدارسين لحالة التراجع الأمريكية.
كان أيزنهاور يخشى أن يؤدي هذا التجمع إلى تأثير مفرط على الحكومة والمجتمع وتوجيه السياسة العامة لمصلحة النفقات العسكرية على حساب المشاكل والتحديات المتجددة. وهذا ما حدث في العقود الخمسة الماضية، البلوتوقراطيون (حكام القلة) تجاهلوا مسؤولياتهم الاجتماعية، واستخدموا سلطتهم لصالح أهدافهم الخاصة، وبالتالي زيادة الفقر وتغذية الصراع الطبقي بسبب جشعهم واهتمامهم بمتعهم الخاصة. وهذا مؤشر رئيسي على تراجع الديمقراطية الأمريكية.
والذي حذر منه بايدن كان مجال حديث واسع داخل النخبة الأمريكية منذ عدة سنوات، فمؤشرات تطور احتكار القلة للثروة والسلطة في الولايات المتحدة يمكن ملاحظته من خلال توسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بسبب تركز الثروة. وهذه خطر على الدول لأنها تؤسس لتزايد الفجوة في توزيع الثروات، حيث يمتلك القليل من الأفراد نسبة كبيرة من إجمالي الثروة الوطنية.
على سبيل المثال، في الربع الأخير من عام 2023 ارتفعت ثروة فئة الـ1 % الأكثر ثراءً في الولايات المتحدة لتتجاوز مستوى 44 تريليون دولار للمرة الأولى على الإطلاق. هذه النسبة الصغيرة من السكان وبهذه الثروات الضخمة، بالتأكيد سيكون لهم دورهم في التأثير على السياسات العامة، والمال المقدم للسياسيين أصبح حالة مكشوفة، بل السياسيون أصبحوا يتفاخرون بنشر حجم التمويل السياسي الذي يتلقونه، وترمب خلال حملته كان يقدم تدفق المال السياسي كمعيار للتفوق!
من الموشرات أيضاً تعاظم نفوذ الشركات الكبرى في صنع السياسة الأمريكية من خلال لوبيات الضغط. فهذه الشركات تستخدم مواردها المالية للتأثير على التشريعات والسياسات التي تناسب مصالحها، مما يخلق تزاوجاً بين مصالح المال والسياسة.
كذلك من المؤشرات الاعتماد على التمويل السياسي لدعم الحملات الانتخابية بشكل متزايد على التبرعات الكبيرة من الأفراد والشركات، مما يزيد من احتمال أن يكون للجهات المانحة تأثير أكبر على النتائج السياسية، وبالتالي تعزيز دورها كأوليغارشية.
أيضا الأوليغارشية تُولد عدم المساواة السياسية حيث تتيح للأثرياء توجيه قرارات الدولة لمصالحهم نتيجة قدراتهم على ممارسة الضغوط وتمويل الحملات، هذا يوجد انعدامًا في المساواة بين فئات المجتمع تمنع الترقي السياسي.
أيضا من مؤشرات الأوليغارشية تجانس النخب السياسية في الحكومات المتعاقبة، فالأفراد من خلفيات اقتصادية واجتماعية مشابهة يصبح نفوذهم كبيرا في المؤسسات الحكومية، مما يساهم في تعزيز تماسك الطبقة الأوليغارشية وتعميق العلاقات الاجتماعية والمهنية.
الغريب أن جامعات النخبة في أمريكا Ivy League ساهمت بشكل كبير في تشكيل وبناء الأوليغارشية. هذه الجامعات، مثل هارفارد، ييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وغيرها، هي مراكز للبحث والتعليم وتُخرج العديد من القادة السياسيين والاقتصاديين. وأسستها العائلات الرأسمالية لأجل التعليم، ولتكون مكانا مثاليا لبناء شبكات العلاقات لأبنائها، ومنذ تأسيسها ساهمت في بناء شبكات قوية من العلاقات بين الخريجين، مما يسهل الوصول إلى المناصب العليا في الحكومة وفي قطاعي المال والأعمال. وامتد تأثيرها إلى الفكر حيث تساهم هذه المؤسسات في تشكيل الفكر السياسي والاقتصادي الأمريكي، مما يؤثر على السياسات العامة والقرارات الاقتصادية، وهذا يفسر حجم التمويل والدعم الذي تتلقاه من الأثرياء لتعزيز تأثيرها في صنع السياسات الحكومية.
وأول مرة اتضح حجم عدم استقلالية الجامعات وأثر هذا التمويل - للشعب الأمريكي وللعالم - بعد المظاهرات الطلابية المناهضة للحرب الإسرائيلية في غزة. عبر الدعم، والاحتواء، والتوجيه لسياسات التعليم والأبحاث، وتوجيه آليات القبول تمكنت جامعات النخبة من بناء طبقات اجتماعية مهيمنة، وتساهم في استمرار الاليغارشية في المجتمع الأمريكي.
من الآثار السلبية التي أشار لها بايدن في كلمته هو الهروب من الضرائب. الأوليغاركية الرأسمالية الأمريكية والبريطانية هم مؤسسو مراكز الملاذات الضريبية بعد انتهاء الاستعمار، فالأثرياء وحتى لا يعودوا بأموالهم لبلادهم أسّسوا البنوك خارج سلطة القوانين لبلادهم في دول الجزر المعزولة، وهذه الملاذات الآمنة يُعزى لها تطور حالة الاحتكار والهيمنة لشركات التقنية الكبرى التي استثمرت فوائض أموالها لتقليل الضرائب وللحصول على القروض لشراء المنافسين القائمين والمحتملين.
والملاذات الضريبية هي التي تساعد الالوغارشيه على بناء الثروات. طبقا لما يقوله Joseph Stiglitz جوزف ستقلتز في مجلة الفورن افيرز (يوليه) 2024، الملاذات هي السبب في تراجع عائدات الضرائب رغم ارتفاع أرباح الشركات في السنوات الأخيرة، وفي رأيه هذا أمر مقلق بشكل خاص نظرًا لأن العديد من الحكومات في حاجة ماسة إلى المال لمعالجة تغير المناخ والأزمات الإنسانية ومجموعة من الاحتياجات العاجلة الأخرى، مثل التعليم والصحة العامة والبنية الأساسية. يقول: «لقد أعاق التهرب الضريبي الحكومات في جميع أنحاء العالم عن تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، مما ساهم في التفاوت العالمي، الذي وصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق. يمتلك أقل من 3000 شخص ما يقرب من 15 تريليون دولار - وهو ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي السنوي لألمانيا والهند واليابان والمملكة المتحدة مجتمعة».
ويبقى السؤال الكبير: لماذا الخشية من وجود هذه الطبقة المتنفذة والمؤثرة على سياسات دولة عظمى مثل أمريكا؟ ما هو أثرها على الداخل الأمريكي، وعلى الأمن والسلام العالميين، وما هو أثرها المباشر على منطقتنا، العالم العربي؟ هذه أسئلة وجودية.
يبقى القول بأن نمو طبقة سياسية تحتكر صناعة القرار القومي في دولة تدعي الديمقراطية يجب النظر له بجدية، خصوصا في حال قوةً سياسية واقتصادية وعسكرية مثل أمريكا. هذه يمكن أن تكون خطرا على نفسها وعلى العالم.
أمريكا دولة عظمى وفي رحلة انحدارها تبدو غير مفهومة وخطرة ومتناقضة مع القيم والأساطير المؤسسة لوجودها وشرعيتها السياسية. المؤرخون يعتقدون أن القوة العظمى في رحلة انحدارها تعود إلى غريزتها الأولى، غريزة التوسع والهيمنة والاستعمار، وهذه الحالة نراها فيما يقوله الرئيس الجديد دونالد ترمب الذي يتولى إعادة تعريف الحدود والهيمنة الأمريكية.
مع أمريكا لا نقول إلاّ: الله يخارجنا!