فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
يُعد «أبرق الرغامة» أحد المواقع الأثرية الواقعة شرق مدينة جدة، والتي كانت ممراً تاريخياً لطرق القوافل المتجهة من جدة إلى مكة المكرمة، واكتسب الموقع شهرته ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه لله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة من عام 1344ه الموافق 25 ديسمبر 1925م.
ويعد الموقع صفحة تاريخية من سطور ملحمة التوحيد التي قادها الملك المؤسس، حيث استطاع أن يحولها من منطقة جرداء إلى واحة حضرية تحتضن على أرضها الأحياء السكنية والمنشآت التنموية، بعد أن كانت قبل توحيد المملكة ممراً لعبور القوافل التجارية القادمة إلى منطقة الحجاز.
ويعود المعنى اللغوي لـ»أبرق الرغامة» من «الأبرق» ويعني البرقاء وهي حجارة مختلطة برمل، وكل شيء خلط بلونين فقد برق «أي لمع» والبرقة أرض وحجارة وتراب، الغالب عليها البياض وفيها حجارة حمراء وسوداء، والتراب أبيض وأحمر أي برق بلون حجارتها وترابها، وفي مثل هذه الأراضي تظهر حولها وعلى أطرافها نباتات وأشجار ويكون إلى جوارها الروض، وهو عشب أخضر يصلح للرعي بعد سقوط الأمطار، وهناك أمكنة عديدة في جزيرة العرب تساق إلى اسم أبرق ومنها هذا المسمى أبرق الرغامة.
كما أن «الرغامة» اسم قديم ينطبق وصفه على طبيعة الأرض والموقع معروف منذ القدم لكونه ممراً لطرق القوافل المتجهة من جدة إلى مكة المكرمة، كما يطلق لفظ «الرغامة» على المسافات التي تجتاز الأراضي الرملية في الحجاز.
ويقع وادي الرغامة شرق جبل أبرق الرغامة بمسافة 14 كيلو متراً تقريباً، ويحتوي الوادي على عين للمياه تشتهر بعذوبتها.
ويعد مناخها مختلفاً عن الأحياء الموجودة داخل المدينة بسبب بعدها عن البحر ومجاورتها للجبال، كما تم إنشاء متحف عن منطقة أبرق الرغامة ومكانتها في مسيرة التوحيد للملك عبدالعزيز على مساحة 150 ألف متر مربع لتجسيد هذا الموروث الثقافي التاريخي.
وما يزيده أهمية أنه آخر نقطة وقف فيها (آخر الفرسان) الملك عبدالعزيز موحداً جزيرة العرب تحت راية التوحيد (لا إله إلا لله محمد رسول لله)، وكان قوام جيشه من الخيل والجمال. وهنا كنا نقول: «إن معركة الرغامة كانت آخر معركة ينتصر فيها الحصان كقوّة على قو ة الحصان (الآلات)».
وقد سمعت من المرحوم (ذياب الجوهر) الذي كان مقرباً من الملك فهد بن عبدالعزيز تغمده المولى بواسع رحمته وغفرانه حيث كنت أراه وأستمتع بأحاديثه الشائقة في مجلس خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عندما كان أميراً لمنطقة الرياض.
ذياب الجوهر كان مرافقاً للأمير محمد بن عبد العزيز عندما خيم الملك عبد العزيز في (أبرق الرغامة) وكان يحدثنا كيف كانت تهجم عليهم الطائرات، ويقول لنا: بين حين وآخر تحلق طائرتان من قبل قوات الشريف يقودها طيارون روس يقذفون بأيديهم قنابل صغيرة على عناصر جيش الملك عبدالعزيز في المخيم، فيحاول الجيش تفادي القنابل بالركض المتعرج في وجهات متفرقة. وكان ذياب الجوهر -رحمه لله- يتمتع بروح فكاهية حائلية؛ حيث يقول لنا: في الوقت الذي تبتعد فيه الطائرات عن موقع الخيام ويحل الأمن لفترة مؤقتة كان الأمير محمد بن عبدالعزيز يرتاح في الخيمة ونحن نجلس خارجها يطلب منا أن (نسولف عليه) نقص عليه قصصا قبل أن ينام، وعندما تعود الطائرات للتحليق فوقنا نركض مجدداً مؤشرين على الخيمة مازحين قائلين: «عندكم في الخيمة ولد عبدالعزيز. كما كان يقول لنا: إن الشريف استعان لمهاجمتهم - أحياناً -بسيارات صغيرة عليها رشاشات.
أما أنا -فسبحان لله- كيف يسرَّ لي أن يتقاطع طريقي مع أهمية المكان والزمان! بدأت رحلتي الطويلة مع المكان في عام 1999م بمناسبة احتفالات المئوية.
وهنا تبدأ قصة العرض لمعرض (مجموعة التوحيد)، بعد أن تقدمت إلى سيدي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة - رحمه المولى رحمة واسعة - ورحب بأن تحتضن منطقة مكة المكرمة هذا المعرض بمناسبة المئوية (احتفالا بمرور مائة عام على دخول الملك عبد العزيز للرياض) فوجهنا لزيارة مركز الملك عبد العزيز الثقافي في أبرق الرغامة الذي أمر ببنائه المغفور له - بإذن لله- خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ( ملك العمار) تغمده المولى بواسع رحمته وغفرانه.
وكانت فكرة المعرض في هذا الموقع فكرة مميزة؛ لأن هذا الموقع رمز ومعلم لآخر فصول توحيد المملكة العربية السعودية.
لم نتمكن من إقامة المعرض في أبرق الرغامة لعدم اكتمال المبنى والتجهيزات، ولم يكن هناك وقت كاف لإكماله، فكان اختيار (بيت نصيف) في منطقة جدة التاريخية هو قدرنا، وما أجمله من قدر! بيت نصيف احتضن إقامة المؤسس العظيم، حيث ذكريات جمع الكلمة وتوحيد القلوب واستكمال مسيرة توحيد البلاد.
مرة أخرى في عام 2005م عندما اختيرت مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية تقدمت إلى المغفور له - بإذن لله -الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة بطلبي لإقامة معرض (مساجد تشد إليها الرحال) في مركز الملك عبد العزيز في أبرق الرغامة.
وبعد سنوات عدتُ إلى نفس المكان، ولم يكن قد اكتمل تجهيزه، وتوكلنا على لله وقمنا بما يمكن لتجهيز معرض (مساجد تشد إليها الرحال)، ذلك المعرض الذي كان أول حدث يفتتح به المركز. معرض مساجد الذي أوحت به اللوحات الثلاث للصديق الفنان (ضياء عزيز ضياء) المعرض الذي لازال حياً وسيبقى يعيش ويكبر. فقد كانت مناسبة اختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية هي الهدف لتلوين تلك المناسبة بلوحات ثلاثة عشر فناناً وفنانة من مختلف قارات العالم. وكل فنان عبر بريشته وبكل حرية عن أقدس المساجد مكة المكرمة ، والمدينة المنورة، والقدس الشريف. واليوم -ولله المنَّة والفضل- لدى (ليان الثقافية) في هذه المجموعة أكثر من تسعين لوحة لما يقارب الثلاثين فناناً وفنانة، والمجموعة - بحمد لله وتوفيقه- في نمو مستمر تذكرنا بأم القرى كأول عاصمة للإسلام.
ومركز الملك عبدالعزيز في أبرق الرغامة كان دائماً يوحي لنا برمزية المكان التاريخية لنتجه إليه ليحتضن ما نقدمه من رسائل تاريخية من خلال الأحداث والمعارض التي نقدمها للوطن والمواطن. فعلى سبيل المثال أقمنا في المركز معرض (شروق وغروب) وكذلك معرض (رسل السلام) بمناسبة مؤتمر الشباب الدولي للتطوع والحوار مع وزارة التربية والتعليم ومنظمة اليونسكو في 2013م.
واليوم (ليان الثقافية) تنيخ جملها في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي في أبرق الرغامة بافتتاح معرض (الجمل عبر العصور) بتاريخ 10-12-2024م بمناسبة اختيار وزارة الثقافة هذه السنة (سنة الجمل) ليكون المعرض الثالث للجمل بعد إقامته بمكتبة الملك عبدالعزيز العامة بمركز الملك عبد العزيز التاريخي بالرياض، ثم بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي بالظهران (إثراء).
افتتح المعرض برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، وبحضور محافظ جدة سمو الأمير سعود بن جلوي وأصحاب السمو والمعالي وأمين مدينة جدة صالح التركي والأحباب والأصدقاء أهالي جدة.
كان معرضا مميزا بشهادة الكثيرين، كونه أقيم في هذا المركز بموقعه التاريخي، وبما يحتويه من لوحات ومجسمات وقطع أثرية تحكي تاريخ الجمل في حضارتنا وعبر العصور. وكنا نأمل أن يستمر المعرض ليتوافق مع (معرض البينالي الإسلامي) الذي سيقام بمدينة جدة هذا الشهر، كون الجمل هو من حمل رسولنا -عليه أفضل الصلاة والتسليم- وهو وسيلة النقل الأولى والأهم لنشر رسالتنا وثقافتنا وحضارتنا إلى العالمين.
ولحسن الحظ، وتقدير المولى -عزَّ وعلا- أن تعم الفرحة وتكون نهاية المعرض بغسيله بالخير والبركة بأمطار الخير والبركة التي عمت مدينة جدة، لتكون سبباً في إغلاق المعرض اضطراريا لعدم مناسبة حالة المركز الذي يحتاج للصيانة جرّاء الأمطار الغزيرة، وتسرب المياه ، ولعدم الاهتمام بالصيانة الدورية بهذا المكان الذي يعد من أهم وأجمل المواقع التي تحكي تاريخنا. وهذه ربما رسالة للمسؤولين بالمركز بالرغم مما قامت به الأمانة مشكورة من دعم لإقامته، وسخرت جهودا بإمكاناتها المتاحة لإنجاح المعرض، لكن قدر لله وما شاء فعل.
الحمد لله ولكلّ شيء سبب، فكما ذكرت أمطار الخير التي كانت السبب لإنهاء المعرض قبل وقته المحدد، كانت هي السبب لأن يشد المعرض رحاله وترحل بنا ناقته إلى طيبة الطيبة، وإلى مدينة المعرفة ليتعرف أحبابنا بالمدينة المنورة وزوارها على (معرض الجمل عبر العصور) «دعها فإنها مأمورة « بتقدير من الله، وتوفيق منه وتكريم لمسيرة (ليان الثقافية) لتعود إلى المدينة المنورة ومدينة المعرفة بعد اثنتي عشرة سنة عندما أقيم معرض (مساجد تشد إليها الرحال) بمناسبة اختيار المدينة المنورة عام 2013م عاصمة للثقافة الإسلامية .
فمن (أبرق الرغامة) ننتظركم بمعرض «الجمل عبر العصور» وبما يحمله من معارف في مدينة المعرفة بطيبة الطيبة، ومن حيث انتشرت رسالة المعرفة.