عادل علي جودة
تواصل سفينة «إثنينية الذييب» إبحارها رافعة لواء العلم والمعرفة، بقيادة ربانها الدؤوب الشيخ حمود الذييب، ومن حوله أبناؤه البررة، ومعهم الإعلامي المتمكن الشاب تركي الناصر، مؤمنة بأداء رسالتها اللافتة في إثراء الوعي المجتمعي في المملكة العربية السعودية التي تشهد تطورًا مطّردًا يبهج ذوي القلوب النابضة بالعفة والنقاء، عبر نشاط ثقافي متنوع تستضيف له الأكفاء من ذوي الاختصاص.
على هذا النحو، كانت الحال مساء يوم الإثنين 30 ديسمبر 2024م، حيث أقامت الإثنينية أمسية قيمة تحت عنوان «دور الإعلام في تعزيز الـهُوية الوطنية، واستضافت فيه معالي الأستاذ سامي عبداللطيف النصف؛ وهو غني عن التعريف، ولكن في عجالة أختزل من سيرته العطرة أنه وزير إعلام سابق في دولة الكويت، ومستشار إعلامي سابق للنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، ورئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لـ «مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية»، ونائب رئيس التحرير لصحيفة النهار الكويتية، وصاحب فكر وقلم، يضاف إلى ذلك أنه كابتن طيار مختص بالتدريب وسلامة الطيران، وعضو مؤسس في «جمعية الطيارين ومهندسي الطيران الكويتية».
عبّر الضيف الكريم في مستهل محاضرته عن امتنانه لإثنينية الذييب وللحضور الكريم، ثم حلق بالحضور في موضوع «الـهُوية الوطنية» واصفًا إياه بالموضوع الجلل، مؤكدًا أنه لو لم يكن هنالك ضعف في الولاء والانتماء للوطن لما قاتل السوداني السوداني، ولما حارب العراقي العراقي، والسوري السوري، واللبناني اللبناني، والفلسطيني الفلسطيني، واليمني اليمني.
وأضاف معاليه؛ الحرب الأهلية الأمريكية على امتداد عشرة ملايين كيلومتر مربع استمرت ثلاث سنوات فقط ثم انتهت، بينما الحروب الأهلية التي نراها في أوطاننا العربية بسبب ضعف الهُوية الوطنية لا نجد لها نهاية، فهي تمتد لعشرات السنين دون توقف.
ولو نرجع إلى السبب الرئيس، أو إلى كلمة السر، في ذلك، لوجدنا أننا لم ننمِّ في شعوبنا الولاء للأوطان، لقد جاء في تقرير حديث لإحدى المنظمات الدولية عن السودان أن هناك ستًّا وعشرين مليونًا مهددين بالموت من الجوع والعطش والمتطلبات الحياتية الأخرى، لقد أصبحت أوطاننا تفتقر إلى توفير أبسط المستلزمات الحياتية لشعوبها، ومع ذلك نراها تسخر مواردها في شراء الأسلحة ليقتل الشقيق شقيقة.
العالم اليوم وما يجري فيه قائم على الـهُوية الوطنية، شهدنا هذا في الانتخابات الأوروبية التي اتجهت نحو الأحزاب اليمينية التي ترفع قضية القومية الوطنية، لقد بات هناك همّ عالمي يبرز للشعوب أهمية التنمية الوطنية، ولربما ما عانينا منه خلال الخمسين والستين والسبعين سنة الماضية، كان بسبب ذهاب الـهُوية الوطنية لصالح ما يسمى «ما هو فوق الوطن»؛ أي أن يكون الولاء والانتماء لدول، أو لأحزاب، أو لأيديولوجيات، خارج الوطن، أو لصالح ما يسمى «ما هو تحت الوطن»؛ أي أن يكون الولاء والانتماء للعنصر، أو للدين، أو للطائفة، وهذا ما يدمر أوطانّا العربية، بل دمرها بالفعل.
لو رجعنا لثلاثينيات القرن مضى لوجدنا أن أوطاننا العربية لم تكن تهتم بالوطن ولا بالوطنية، هذا الأمر لا يقتصر على العرب فقط، فقبل ذلك كان ملوك أوروبا يأتون من ألمانيا، حتى إن مسمى Prime Minister أتت به بريطانيا لأن الملك لا يتكلم الإنجليزية فاختار أحد الوزراء الذي يتكلم الإنجليزية ويفهم الألمانية وجعله الوزير المسؤول، أي أن هذه الظاهرة كانت موجودة عند أمم أخرى، إلا أن تلك الأمم بعد حروب طاحنة راح ضحيتها الملايين من القتلى رجعت لأهمية الأوطان.
أما نحن؛ فلم نصحُ بعد، فمنذ ما يقارب مئة سنة استمر لدينا عدم الاهتمام بالوطن والوطنية، الأمر الذي انعكس على كل الحركات السياسية التي نشأت، لدرجة أن دولًا كان يُصدر إليها الملوك من الحجاز، فهناك مثلًا الملك فيصل بن الحسين في سوريا والعراق، والملك عبدالله الأول بن الحسين في الأردن، ولما أشار معاليه إلى مصر قائلًا إنها كانت تُحكَم من الخارج لسبعة آلاف سنة، ولمّا تطرق إلى مقال الزعيم المصري مصطفى كامل الذي قال فيه: «ما لنا وسيناء؟!؛ في إشارة إلى ولائه لتركيا»، رُحتُ أبحث في هذا القول فوجدته على حق؛ إذ سردت الموسوعة الحرة «ويكيبيديا» هذا الأمر بشيء من التفصيل، جاء فيه «عندما احتلت تركيا طابا واعتبرتها أملاكًا تركية في مطلع عام 1906م، صرح السلطان عبدالحميد الثاني أن شبه جزيرة سيناء تتبع الدولة العثمانية، فاعترضت الحكومة الإنجليزية على هذا الفرمان، فكتب مصطفى كامل مقالًا في جريدة اللواء بتاريخ 22-4-1906م يبدي فيه ولاءه لتركيا»، ثم أكد ولاءه في مقال آخر كتبه بتاريخ 8-5-1906م قال فيه إن «حادث طابا يجب أن يُنظر إليه على أنه خلاف بين دولة محتلة بالاغتصاب هي بريطانيا، ودولة هي صاحبة السيادة على مصر هي تركيا». إلا أن هذا الانطباع لم يكن يمثل رأي الشعب المصري بمجمله، فعلى سبيل المثال جاء رأي المفكر والفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد خلاف ذلك إذ كتب في الصحيفة نفسها قائلًا «مصر ليست جزءًا من دولة الخلافة ويجب ألا تتبع تركيا، لأنّ سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة، ولا تدفع عنها مضرة، ولا تستطيع أنْ تـُنقذها من الاحتلال البريطاني الذي لا يمكن الخلاص منه إلّا بالاعتماد على أنفسنا. وأنّ مصر يجب أنْ تكون للمصريين، لا للإنجليز ولا للعثمانيين».
ثم راح معاليه يشير إلى دول الخليج التي تعد مثالًا يحتذى في إطار الانتماء للأوطان كما للخليج، مشيرًا إلى أن المفهوم لدى الفرد الخليجي هو أن يكون انتماؤه لوطنه أولًا ثم يتسع الانتماء إلى الخليج، أي لكي يكون خليجيًّا جيِّدًا عليه أن تكون سعوديًّا جيِّدًا، وكويتيًّا جيِّدًا.. وهكذا. وهنا توقف معاليه مع حالة الولاء والانتماء في المملكة العربية السعودية التي تعزز المواطنة بشكل كبير، لأن المواطن والوطنية تتعزز بالإنجاز، فعندما ينجز وطنك تشعر بالفخر به، وهنا يأتي دور الإعلام الخليجي في تسليط الضوء على إنجاز أوطاننا لتعزيز قضية الفخر بالأوطان لدى الشباب، ونحن الآن في زمن السوشيال ميديا، ويجب علينا الانتباه للإعلام السالب، فالبعض يذهب إلى الدهاليز المظلمة ليسلط الضوء على نقيصة وكأن الوطن كله نقائص. نحن لا نطالب الإعلامي أن يكون مجاملًا، ولكن في الوقت نفسه لا يجب أن يقدم إعلامًا محبطًا أو مقللًا من أهمية الإنجازات في وطنه، أي أن يسلط الضوء على السالب، وينسى المنجزات الموجبة، وهنا أكد معاليه قائلًا: نحن لا نخاف من الإعلام المهني المحترف كما هي الحال في الصحافة الورقية والفضائيات معروفة المنشأ، لكننا نخاف من الإعلام غير المهني وغير المحترف الذي أصبح مهنة من لا مهنة له، أو الإعلام الذي يسمى بالإعلام الموازي أو البديل أو السوشيال ميديا الذي يتصف بعدم المهنية أو يخدم أجندات خارجية خطيرة.
ثم أشار معاليه إلى جسامة الضرر الناتج عن الإعلام غير المهني الذي - إن أحسنّا النيّة - يُمارس من قبل أناس غير مهنيين وغير محترفين، وهذه إشكالية خطيرة، فالمدرس لا يمارس مهنته إلا بعد سنوات طوال من التعليم والتدريب، وكذلك الطبيب، والطيار، والمهندس، ورغم ذلك يخطئون، فالطبيب إن أخطأ يتضرر من خطئه شخص واحد، والمهندس قد ينهار بنيان فيتضرر بذلك عشرة أشخاص أو عشرين شخصًا، والطيار يتضرر من خطئه مئة شخص أو مئتين، بينما الإعلامي غير المهني قد يفجر وطنًا بأكمله، ويتسبب في قتل الآلاف وهجرة الملايين، ولذلك لابد من تقديم التدريب المنهجي الدقيق لمن يراد له ممارسة العمل الإعلامي سواء بشكله الورقي أو السوشيال أو الفضائيات، ولاشك أن على الدول والحكومات أن تتحمل مسؤولياتها في هذا الخصوص.
** **
كاتب فلسطيني - الرياض