د. علي القحيص
لغتنا العربية الجميلة تعد سيدة اللغات وأجملها كتابة ونطقا وتحدثا، وهي اللغة المعتمدة في هيئة الأمم المتحدة، وكرمها الله لتكون لغة القرآن الكريم وأهل الجنة. يلاحظ أنه كلما مرت دولة عربية في أزمة أو محنة أو احتلال أو انقلاب أو محاولة لتغيير النظام الحاكم، تطفو على السطح مفردات جديدة تلازم الحدث وتداعياته لم نسمع بها من قبل، ومع اشتداد الأزمات نسمع مثل هذه الكلمات.
وبالعودة إلى استحضار الأمس القريب عندما احتل العراق عام 2003، شاعت مفردة (العلوج) التي أطلقها وزير الإعلام العراقي الأسبق محمد الصحاف، في مؤتمراته الصحافية وهو وصف متدن يقلل فيه من شأن الجندي الأمريكي والغزاة وأعوانهم!
ولما عصفت الأزمة بسوريا واشتد النزاع بين أنصار النظام المخلوع والمعارضة السورية شاع تداول مفردة (شبيح) النظام، وتعني «المارق كالشبح فهو شبيح» لأعوان وأدوات السلطة والمؤيدين المدافعين عن النظام وأزلامه. واخذت معاني ودلالات كثيرة على الولاء الأعمى للنظام وتبرير وتجميل جرائمه مهما كانت النتائج ضد المعارضة في الداخل والخارج.
وبعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، انتشرت مفردة «مكوع» و»تكويع» و»تكويعة»، يعني غير المؤيد للنظام، واستدار يكيل للنظام أبشع الأوصاف، ويعبر عن عودته إلى جادة الصواب وغير اتجاهه ليكون مناصرا للسلطة الجديدة دون أي اعتبار لمواقفه السابقة، وهذه المفردة مأخوذة من (الكوع)، يعني وصلة معدنية تصل أنبوبتي تصريف دخان المدفأة المنزلية لخارج المنزل وبزاوية حادة 90 درجة.
وأصيب المراقبون لتطور الأحداث في سوريا بصدمة واستغراب شديدين من أصوات «المكوعين» الجدد، بشكل مثير للاشمئزاز والسخرية والتهكم دون حياء!
وحتى لو لم يطلب منهم (التكويع) لكنهم كوعوا طواعية إلى حد الانكسار وطأطأة الأعناق والاستذلال المجاني ليجعلوا من حافة «التكويع» أكثر من علامة استفهام وتساؤل وتعجب!
وربما علامة الاستفهام تليق بهم أكثر من (التكويع) لأنهم مثلما كانوا يطبلون ويزمرون ويروجون للنظام القمعي الديكتاتوري السابق ويهاجمون من يعارضه ويطلقون عليهم أبشع العبارات والشتائم والمفردات النابية وعبارات التخوين، ويتهمون المعارض بأنه «الخائن والعميل والمرتزق» والمرتد والمتهاوي في أحضان الأجنبي المتجول على أبواب السفارات ليبيع أسرار الوطن والأضرار بسمعة القائد الهمام الشجاع!
أصبحوا الآن يتملقون ويصفقون لإنجازات الثورة السورية وقادتها ورموزها وفكرها ومنهجها، وقفزوا من المركب الغارق إلى المركب الجديد بسرعة مذهلة، وبأسلوب ممجوج غريب وعجيب، ليضعوا المراقب في حيرة ودهشة حول كيفية الاستدارة المهينة والمجانية والتغيير في الرأي والموقف، وسرعان ما خلعوا قناعا ولبسوا القناع الجديد، الذي لم يخفي قبح السرائر والوجوه، طمعا بنيل رضا السلطة الجديدة أو التملق لمصلحة عابرة دون اعتبار لاحترام الذات.
هنا لا نعتب على الممثل والمطرب، لأنها صنعتهم التمثيل «أراجوزات» أصلا يدركون ويجيدون هذه الصنعة باحتراف ومهنية وأصبحت جزءا من شخصياتهم!
ولكن العتب واللوم على من يدعي أنه المثقف والأديب والإعلامي والصحافي والكاتب، يتلونون كالحرباء ويتأقلمون بسرعة البرق ويتسلقون كالزواحف في سواد ليلة، ويسعون كالأفعى تحت القش، ينشرون أنشطتهم الجديدة عبر الفضائيات والتواصل الاجتماعي، بلا حياء أو خجل حتى من أقرب المقربين منهم أو محيطهم، مثلما كانوا يزعجوننا بأصواتهم العالية المنفرة التي تفوح منها رائحة الكذب والنفاق والتزلف والانتهازية، بينما اليوم يشتمون ويسبون النظام السابق الذي كانوا يصفقون له، أصبحوا يطلقون عليه أسوأ الصفات والمفردات المشينة مهللين بكل فرح وسعادة مرحبين بالتغيير الجديد، الذي يصفونه بأنه الرحمة التي نزلت عليهم من السماء، وكأنهم ينتظرون هذه الفرصة على أحر من الجمر!!