د. محمد بن إبراهيم الملحم
من خلال ما تقدَّم عرضُه من دراسات عالمية وكذلك بعض الدراسات المحلية ذات العلاقة غير المباشرة، يمكن أن نستنتج أن ترْك الوظيفة لدى عدد مهم من المعلمين السعوديين يعود إلى عدم رغبتهم الأساسية في هذه المهنة، ولكنهم لجأوا إليها من باب الحاجة إلى التوظيف، وهو قد يبدو ظاهرياً أمراً طبيعياً وممارسة شائعة في كثير من البلدان، ولكنه لا يكون سائغاً في حق بلد يرغب أن يكون للتعليم قيمة مهمة في دعم الاقتصاد الوطني وفي تحقيق نسب عالية من التفوق الحضاري والدولي، ففي مثل هذه الحالة ينبغي أن تكون مهنة التدريس مهنة جاذبة وليست مهنة تلجئ إليها الحاجة كما أشارت إليه النتائج، وهو أيضاً أمر مشاهد محسوس من خلال تجربة الجميع الشخصية ومعايشتهم للواقع.
وهنا يبرز السؤال كيف يمكن أن تجعل من مهنة التدريس مهنة جاذبة: هل يا ترى من خلال رفع الرواتب؟ ومع أن الإجابة لا تنفي أهمية الرواتب لكن لابد أيضاً من الإشارة إلى عامل آخر مهم جداً وهو قيمة المهنة ذاتها، وإلى أي مدى ينظر إليها المجتمع باحترام وتقدير واهتمام بصاحبها! ولنتذكر جميعاً أنه في فترة تاريخية معينة كان للمعلم قيمة عالية في مجتمعنا، وذلك عندما كان هناك فرق بين مستوى المعلم المعرفي والمستوى المعرفي لبقية أفراد المجتمع، ففي تلك المرحلة كان أغلب أفراد المجتمع غير متعلمين أو متعلمين بدرجة دنيا من مراحل التعليم كالابتدائية مثلاً، الأمر الذي يجعل من المعلم الذي درس سنوات عديدة، وتمكن من تخصص معين وجاء يعلم أبناء هؤلاء يحمل قيمة كبيرة في نفوس هؤلاء الناس، حتى لو لم يكن من أبناء الوطن وكان أجنبياً عنه أتى بحثاً عن رزقه، ولكن في وقتنا هذا حيث عاش كثير من الطلاب خبرة سلبية مع عدد من المعلمين الذين لا يمتلكون ناصية التخصص الذي يدرّسونه، ولا يمتلكون أيضاً فنيات التدريس كما كان يمتلكها ذلك الجيل، فقد تكونت فكرة سلبية لديهم عن المعلم ومهنة التدريس، خاصة في ظل انخفاض مستوى الانضباط في جو المدرسة الأكاديمي، وتراجع تطبيق أنظمة السلوك في كثير من الحالات مما أدى إلى تناقص هيبة المدرسة وقيمتها، وجعل النظرة السلبية الدونية لمهنة التدريس والمدرسة تتأكد أكثر لدى الطالب الذي فيما بعد سيكون هو أحد أفراد المجتمع الذي بمجموعه لم يعد يقدّر المعلم ومهنته، ولم تعد للمدرسة قيمتها العظيمة التي كانت تمتلكها فيما سبق من الزمن. دعونا نقارن ذلك بمهنة الطبيب في بلدنا، فالطبيب السعودي أثبت جدارته وكفاءته في الغالبية العظمى من الحالات، وهو نتيجة منطقية لصرامة كليات الطب وجديتها في تخريج أطباء متمكنين من علوم الطب مع الجودة الكبيرة للرخصة المهنية للطب؛ الأمر الذي جعل من الأخصائي السعودي شخصاً يوثق به ويستحق هذه الثقة بجدارة وينال إعجاب وتقدير المجتمع. ولم يحصل المهندس السعودي مثلاً على القيمة نفسها التي حازها زميله الطبيب مع أن كلاً منهما عاش نفس حالة التحدي تقريباً للحصول على ما يؤهله في الثانوية العامة للدخول إلى كليته، بيد أن ما حققته كليات الطب والرخصة المهنية للطب كان أكثر تقدماً مما حققه المجال الهندسي، تصوروا معي مثلاً أن كليات الطب لدينا ليست لديها نفس الصرامة، وأن الرخصة المهنية للطب فيمستوى حد الكفاية الأدنى كما يقال، فلا نتوقع جميعاً أن حال أطبائنا السعوديين سيكون كما شهدناه اليوم، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع وجهة النظر هذه، بيد أن فيها ما يكفي من المقارنة العادلة مع حالة مهنة التعليم عندما نتحدث عن قيمة المعلم المجتمعية.
إذن احترام المعلم وقيمته في المجتمع هو «صناعة» تنتج من عوامل متعددة أبرزها إتقان تخريج الطلبة الجامعيين الذين سيصبحون معلمين لكي يبلغوا درجة تمكُّن تليق بمهنة التدريس، وفي نفس الوقت عدم تساهل المؤسسة التعليمية في توظيف من هم في المستوى الأدنى من النصيب المعرفي لتخصصهم، مع عنايتها أيضاً بإمكانياتهم الشخصية للتمكن من مهارات التدريس والموقف الصفي الذي يتطلب منهم درجات معينة من الانضباط والجدية والقدرة على التحكم وإثبات الذات، فمتى ما نجحت المؤسسة في فلترة المتقدمين إليها للوصول إلى هذه العينة المتقدمة من المعلمين المتمكنين، فإنها تكون قد ساهمت مساهمة فعالة في تكريس قيمة المعلم الإيجابية ورفع أهميته وتقديره في المجتمع، وفي نفس الوقت وبلا شك فلابد لها أن تعتني بهذا المعلم المتمكن الجيد والبارز بإعطائه أجراً يضاهي ما يأخذه زميله المهندس البارع أو المحاسب المتمكن، فهو يتساوى معهما في الجهد الذي بذله في دراسته وتمكنه من تخصصه، كما أن دوره الوظيفي المستقبلي لا يقل عن أي منهما، بل إن هناك من يرى أنه أكثر أهمية فهو من يصنع هؤلاء لمستقبل المجتمع.
وبالإضافة إلى ما تقدم فإن المؤسسة التعليمية مطالبة بأن تحافظ على مستوى انضباطي وجدي في المدرسة يجعل منها ذات هيبة وقيمة؛ مما يبعث على الفخر لدى كل من يعمل فيها، الأمر الذي ينعكس بعد ذلك على قيمتها في نفوس أفراد المجتمع الآخرين؛ فيحصل المعلم والمدير والمرشد الطلابي وكل من يعمل في المدرسة على تقدير المجتمع واهتمامه، وهو ما يرتقي بقيمة مهنة التدريس ليجعلها مهنة مرغوبة لا يتنازل عنها صاحبها ويطمع في غيرها.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً