د.زيد محمد الرماني
المدرسة النمساوية هي نهج لعلم الاقتصاد، نشأ في فيينا في سبعينات القرن التاسع عشر. وهي تنتقد بشدة الاتجاهات الاقتصادية الحديثة السائدة. يؤمن النمساويون كما يطلق عليهم، مع أنهم موجودون اليوم في كل مكان، بأن كل الأحداث الاقتصادية تنبع من قيم الأفراد المعنيين واختياراتهم وظروفهم في وقت الاختيار.
كما يرى النمساويون أن جمهور علماء الاقتصاد مخطئون عند محاولة البحث عن صلات إحصائية بين الظواهر الاقتصادية. لذا، يقولون إن نهجنا المبني على الفرد والقيمة يوفر تفسيراً أفضل للأحداث الاقتصادية، كفترات الانتعاش والكساد الاقتصاديين.
إذن، فليست المدرسة النمساوية للاقتصاد مؤسسة تعليمية مقرها فيينا، وليست معنية باقتصاد النمسا ذاتها، بل يشير المصطلح إلى نهج خاص في علم الاقتصاد، وإلى الاقتصاديين الذين يتبعونه في أرجاء العالم.
ومع هذا، فأصول المدرسة النمساوية ترجع إلى جامعة فيينا، إذ بدأت مع نشر كتاب مبادئ علم الاقتصاد لكارل منجر، حين انتقد الكتاب الأفكار الاقتصادية السائدة وقتها في العالم المتحدث بالألمانية.
حيث رأى كارل منجر وهو اقتصادي نمساوي أن الاقتصاديين يمكنهم الخروج بمبادئ تثبت صحتها في كل مكان وزمان، وأن ما يحدث في عالم الاقتصاد هو أن ملايين الناس يقومون بالاختيار على نحو متواصل. وهذه الخيارات هي أساس الظواهر الاقتصادية كالعرض والطلب والسعر والسوق.
كما نادى منجر أيضاً بأن الخيارات الفعلية التي يقدم عليها الناس تعتمد على القيم والتفضيلات الخاصة التي يحملونها نحو مختلف الأشياء. لكن هذه الأمور تتعلق بالمشاعر والانفعالات الشخصية، وهي أمور يستحيل على الاقتصاديين الوصول إليها على نحو مباشر.
وعلاوة على ذلك، فقد أحدث منجر (إلى جانب وليم ستانلي جيفونز وليون فالراس) ثورة الفكر الاقتصادي تدعى تحليل المنفعة الحدية. ويظل هذا التحليل أحد ركائز علم الاقتصاد السائد اليوم. وفكرته هي أنه حين يقدم البشر على خياراتهم ويتاجرون، فإنهم يسعون للحصول على أي شيء من شأنه أن يلبي أكثر احتياجاتهم إلحاحاً أولاً. بعد ذلك يسعون لتلبية الحاجة الأقل إلحاحاً أو الأكثر حدية. أي أن الناس يختارون على أساس المنفعة الحدية التي تقدمها لهم الأشياء المختلفة. يمكننا هذا المبدأ أو التحليل من أن نتفهم إلى حد بعيد، كيف يجري الناس صفقاتهم الاقتصادية وكيف تعمل الأسواق.
وقد أثار نهج منجر خلافاً كبيراً حول ماهية العلوم الاجتماعية، ومن بينها علم الاقتصاد، عرف باسم النزاع المنهجي. وفي خضم هذا الخلاف، أطلق على منجر ورفاقه في جامعة فيينا، يوجين فون بوهم بافرك وفريدريك فايزر، اسم المدرسة النمساوية.
وقد طور بوهم بافرك نهج منجر الذاتي من خلال تطبيقه على مجال الفائدة ورأس المال. وبين أن الفائدة تعكس تفضيلاً معيناً لدى البشر، التفضيل الزمني تحديداً. كما تبنى فريدريك فايزر من جانبه، النهج ذاته في تحليل التكلفة. وبين أن التكلفة ليست مقياساً موضوعياً، وأنها أيضاً تنبع من القيم والتفضيلات الذاتية لمتخذي القرار.
ومن ثم، فإن منجر وبافرك وفايزر يمثلون الموجة الأولى للمدرسة النمساوية، أما الموجة الثانية فكانت بقيادة لودفيج ميزس وفريدريك هايك، اللذين تعاونا في الثلاثينيات في تفسير دورات الاقتصاد. ثم جاءت الموجة الثالثة من اقتصاديي المدرسة النمساوية من الولايات المتحدة الأمريكية على أيدي موراي روثبارد وإسرائيل كيرزنر.
في عام 1975، فاز فريدريك هايك بجائزة نوبل للاقتصاد، عن عمله الذي أجراه عن دورات الاقتصاد، وهذا أثار قدراً من الاهتمام في العالم بأفكار المدرسة النمساوية.
ومهما يكن السبب، تظل الحقيقة أن نهج المدرسة النمساوية يمكن أن يعلمنا الكثير عن كيفية إقدام الناس على خياراتهم، أو كيف يقتصدون، بلغة الخبراء. وهذا هو جوهر علم الاقتصاد. ومن هنا، جاءت الحاجة لتقديم أفكار المدرسة النمساوية، بطرق مفهومة على نحو واسع.