د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كانت الحرب على غزة من أوضح الشواهد على عدم كفاءة الإنسان في وضع معايير منصفة ومتوازنة للعيش بسلام مبني على العدل، وشاهداً على عدم كفاءته في التفريق بين القول والعمل في الواقع، وشاهداً على استخدام العبارات الجميلة وتطبيق نقيضها، وشاهداً على أن القوة لها القول الفصل في النهاية، وشاهداً على قدرة الإعلام على توجيه الرأي العام، وشاهداً على أن الديمقراطيات التي كان يعتقد البعض أنها كما توصف تبيَّن خلافها، وشاهداً على قوة المال في السيطرة على القرار السياسي من خلال التأثير الكبير الذي تلعبه مجاميع الضغط المختلفة، وشاهداً على أن هناك دولاً كان البعض يعتقد أنها حرة في قرارها، وتبين أن هناك مسارات معينة ترسمها مجاميع الضغط لابد لمن أراد الوصول إلى قمة القرار اتباعها، وفي ظني أنه لولا الحرب على غزة لما تبيَّن للبعض تلك الخفايا وغيرها كثير.
فشل الديمقراطيون بقيادة بايدن ثم هاريس، ونجح الجمهوريون بقيادة ترامب في قيادة الولايات المتحدة الأكبر قوة في العالم، والأعلى إجمالي إنتاج وطني في العالم، والأكثر تأثير سياسياً واقتصادياً وإعلامياً في العالم، وسواء كان القائد ديمقراطياً أو جمهورياً فإن هناك خطوطاً رسمتها مجاميع الضغط، لا يمكن تجاوزها، ودروباً لابد من سلوكها، وعلى رأسها دعم إسرائيل المطلق بلا قيد ولا شرط ولا رادع، وكذلك الحد من تأثير الصين، ومحاولة عرقلة تقدمها المعرفي والتقني والاقتصادي، وقد حاولت تلك المجاميع كما أعلم أن تخترق خصوصية الصين وأن تتغلغل في مفاتيح سياساتها لكنها لم تنجح، لهذا كانت هدفاً ضرورياً لبقاء السيطرة على العالم.
بعد أن فاز ترامب للمرة الثانية كان أكثر دراية بالشأن العالمي، فقد استوعب بعضاً من الدرس الذي منحته إياه التجربة مع كبر سنه، فالإنسان الناجح يظل يتعلم من أخطائه في أي مرحلة عمرية كان، وربما تظهر تلك المعرفة لدى ترامب في الفترة القادمة من حكمه، وكان يعلم أن بايدن ظل يطمح للوصول إلى وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في غزة، لكن بايدن لم يكن يحسن ولا يقوى على القيام بالضغط الكافي على إسرائيل، ولم يكن يزيح أيدولوجيته هو وأعوانه عن طريقه لفرض جزء من حقوق أهل غزة، وكانت تغلب أيدولوجيته إنسانيته، ولهذا لم يكن قوياً بما فيه الكفاية، مثل من يضعف أمام محبوبته.
قَدِمَ ترامب ونحَّى أيدولوجيته جانباً، وحرَّك قوته فضغط وأنهى الأمر الذي كان يراوح مكانه، وتحقق ما كانت ترفضه الحكومة الإسرائيلية، مجبرة غير مختارة، ولم تتحقق أهدافها بالقضاء على حماس، والبقاء في غزة، والهيمنة على المعابر، أما حماس فقد وافقت على تحرير جميع الرهائن، مقابل آلاف الرهائن الفلسطينيين الذين لدى إسرائيل، وعيون العالم تراقب مدى الالتزام ببنود الاتفاق الثلاثة، والتي تعتمد بعض تفاصيل بنودها على الثقة بين الطرفين.
هناك حقيقة ظاهرة للعيان وهي الموقف الثابت للمملكة العربية السعودية من دعم الشعب الفلسطيني، والمطالبة بإيقاف الحرب في غزة، طيلة تلك الحرب المدمرة التي استمرّت أربعمائة وواحداً وسبعين يوماً، لم تترك المملكة وسيلة أو محفلاً عالمياً إلا وجنَّدته في سبيل الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني، وإعطائه حقوقه، وإيقاف إراقة الدماء والحرب التي لم تشهد ضراوتها أي حرب بعد الحرب العالمية الثانية.