عادل علي جودة
مع إطلالة عام 2025م، وبعد ليلةِ صراعٍ طويلةٍ مريرةٍ مع مرض الربو، كان لزامًا عليّ أن أحمل ساكنة قلبي وراسمة هنائي؛ أم أولادي «نعمة» إلى المستشفى، ويا لها كم امتدت المسافة بين البيت والمستشفى، ويا لها من معاناة قاسية تلك اللحظات التي يقود فيها المرء سيارته ونبض روحه تجلس إلى جواره لا تجد هواءً تستمد منه أنفاسها.
وصلنا قسم الطوارئ، وعلى الفور أُجريَت لها الإسعافات الأولية اللازمة، إلا أن حالتها استوجبت أن تلزم السرير الأبيض لمواصلة ما يلزم من عناية وعلاج.
وما أن غادرتُها حتى غزت الحيرة قلبي، وتراكمت التساؤلات والتخوفات أمام ناظري، وتواصلت وخزاتُ التيه والآهات داخلي ومن حولها ابتهالات أوجاعي وآلامي؛ يا رب عفوك ولطفك وإحسانك، فالقلب لا يحتمل، والروح لا تقوى، والعقل يضج بذكرياتٍ تحمل بين طياتها كل حركاتنا وسكناتنا، والآمال والأحلام لم تزل تعمر جوانحنا.
كنا (أسرتي وأنا) نقضي النهار بجانب «نعمة» وهي في سريرها، نبذل وسعنا كي نرسم البسمة على محياها، ونستنهض همتها وطاقتها، ونبث فيها الأمل ونحن نتحسس معها درجات تحسنها المضطرد يومًا بعد يوم، وكلنا نلهج بالدعاء.
أيام عديدة مضت قضيتها دون «نعمة»؛ لا مساءَ يجمعنا، ولا سفرة نتذوق من خلالها صنع يديها، ولا فنجال قهوة نحتسي معه جمال الحياة بوجودها بيننا، لا همسة محبة تبعث فينا الطمأنينة والأمان، ولا بسمة هناء تحيي لدينا الرجاء، ولا لمسة حنان تحملنا إلى غد يشرق بالأمل.
وفي عمق كل هذا الوجع وجدتني أتأمل حال الأعزاء الذين غابت عنهم أمهات أبنائهم بعد أن تقاسموا حلو الحياة ومرها على امتداد عقود من الزمن، فأهتف بعمق جوانحي سائلًا الله أن يربط على قلوبهم.
تسعة أيام كاملة مضت، لكنها لا تقاس بالساعات والدقائق، إنما بالحيرة والريبة والقلق، إلا أن الله السميع العليم استجاب لدعواتنا، فجاء الخبر السعيد على لسان الطبيب الذي طمأن قلوبنا ووصف لنا الأدوية اللازمة لمواصلة العلاج والعناية في البيت.
ولما وصلنا البيت طالبناها راجين أن تلتزم بالراحة التامة، والأمور كلها بفضل الله ميسرة لتأمين الراحة لها، وبالطبع كانت تستجيب أمامنا، لكنها في غيابنا تجد نفسها غاصت في الإشراف على أعمال البيت بوصفها سيدة البيت والحريصة على ترتيب زواياه وأركانه.
بعد بضعة أيام تحسنت بحمد الله بشكل ملحوظ، ففاجأتنا بحفلة كعك من صنع يديها، وكما هي الحال دومًا وضعت لي علبة مملوءة بالكعك لآخذها معي إلى العمل، وفي العمل حينما حان موعد الشاي أخذت كعكعة وأقفلت العلبة، لكنني ما أن التهمتها حتى أخذت الثانية، فالثالثة التي أنهيت التهامها مع آخر رشفة من الشاي.
فوجدتني أعود لتلك اللحظة التي سبقت دخولها المستشفى، أتحسس حجم خوفي عليها والجوارح كلها تلهج لها بالدعاء، فهمست داخلي؛ هأنذا أتذوق الكعك مصنوعًا بيديها ومجللًا بأنفاسها، فيا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك؛ إذ مددت في عمرها، فهي بلسم حياتنا؛ كيف لا وهي عنوان الأمان والوئام في كل صغيرة وكبيرة، وفي يقيني أنها ليست وحدها كذلك، بل كل حواء تشكل البلسم لروح آدم الذي يقدر حواء ويتفهم احتياجاتها ويحسن التعامل معها، لكن للأسف ليس كل آدم كذلك، إذ هناك البعض مَن لا يحترم حواء، وينظر إليها نظرة لا تليق بها مع أنها بالنسبة إليه الأم، والأخت، والزوجة، والابنة، وأخص بالذكر أولئك الذين أصابهم الحول الفكري والمفهوم الذكوري الخاطئ، فأساؤوا معاملة حواء وتسببوا في حزنها ومقتها، والقصص في هذا الإطار كثيرة ومؤسفة، لاسيما قصة تلك السيدة التي قالت: «إني أحمل من الهم ما تنوء بحمله الجبال»، قلت: «هوّني عليك سيدتي!»، فأردفت: «زوجي لا يحترمني، بل يزدريني ويضربني»، أو «تلك السيدة التي بكت بحرقة وأبكت من حولها وهي تشكو ابنها العاق الذي ضربها كما لو أنه في عراك مع عدو لدود»، أو «ذاك الرجل الذي يعضِل ابنته من أجل راتبها فيتسبب لها بالأمراض النفسية المستعصية»، هذه أمثلة سريعة، وحتمًا هنالك من الأمثلة ما هو أشد وأقسى، الأمر الذي أخذني -بحزن شديد- إلى نظم قلت فيه:
إِلَيْكَ آدَم
مَا لَكَ لَا تُحـسِنُ الْإِدْرَاكَ، مَا أَجْهَلَكْ
مَا بِكَ لَا تَشْكُرُ النَّعْمَاءَ، مَا أَتْعَسَكْ
هَذَا الْحَنَانُ أَمَانٌ عِشْ بِهِ هَانِئًا
وَكُنْ لَهُ بَاسِمًا وَاحْضُنْ بِهِ جَنَّتَكْ
وَذَا الْعَطَاءُ سَخَاءٌ جُدْ لَهُ بِالرَّخَا
وَذَا الْوِئَامُ اقْتِرَابٌ مِنْكَ كَيْ يَحْضُنَكْ
حَوَّاءُ دُنْيَاكَ فَاسْكُنْهَا بِسَمْتِ الرَّجَا
إِذْ لَا يَلِيقُ بِهَا مَقْتٌ وَلَا مُعْتَرَكْ
انْظُرْ لِسُهْدٍ تُلَاقِيهِ بِكُلِّ الرِّضَا
بِكُلِّ حُبٍّ تُنَاغِي بِالْمُنَى مَبْسَمَكْ
وَبِالرِّضَا غَادَرَتْ مَنْ فِي الدُّنَا وَارْتَقَتْ
إِلَيْكَ أُنْسًا وَحِيدًا عِزُّ مَا فِيهِ لَكْ
أَمَا تَرَى أَنَّهَا لِلْبَيْتِ نَبْعُ الْهَنَا
هَمْسُكَ أَمْرٌ لِرِمْشِ الْعَيْنِ كَيْ تُسْعِدَكْ
تَسْعَى إِلَيْكَ بِمَا يُرْضِي جُمُوعَ الْأَنَا
تَحْمِلُ شَكْوَاكَ تَمْحُو عَنْكَ مَا أَحْزَنَكْ
أَمَا تَرَى الْآهَ تُنْسَى فِي فَضَا حَضْنِهَا
فَاخْلُدْ إِلَيْهَا بِلُطْفٍ يُوهَبُ الْأُنْسُ لَكْ
وَاسْهَرْ عَلَيْهَا وَسَمِّ اللَّهَ حَمْدًا بِهَا
وَاصْنَعْ لَهَا السَّعْدَ صَرْحًا فِيهِ صُنْ مَهْنَأَكْ
مَاذَا دَهَاكَ أَيَا مِسْكِينُ إِيَّاكَ أَنْ
تَغْفُو وَإِلَّا سَيَغْفُو قَلْبُ مَنْ عَاشَ لَكْ
وَهَا أَنَا أَنْثُرُ الْأَنْفَاسَ بِالْحَمْدِ إِذْ
أَكْرَمَنَا اللَّهُ مِنْ أَضْلَاعِنَا ذا الْمَلَكْ
حَوَّاءُ يَا أُمَّنَا يَا نُورَ أَعْمَارِنَا
أَنْتِ الْأَنَا وَأَنَا الْمَسْؤُولُ أَنْ أُكْرِمَكْ
حَوَّاءُ يَا أُخْتَنَا يَا عِطْرَ أَيَّامِنَا
أَنْتِ الْأَنَا قَسَمًا مِنِّي لَأَنْ أُسْعِدَكْ
حَوَّاءُ يَا كُلَّنَا يَا تَاجَ قَامَاتِنا
لَكِ الْوَفَا نَبْضُ وَعْدٍ سَوْفَ لَنْ أَخْذُلَكْ
ويبقى السؤال موجهًا إليك آدم؛ ابنًا كنت أو زوجًا أو أبًا: هل من وقفة مع النفس تتأمل من خلالها قول الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..}، وفي سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً..}، وفي سورة البقرة: {.. فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ..}.
وأختم مبتهلًا بالشفاء العاجل التام الذي لا يغادر سقمًا لرفيقة الدرب وحبيبة القلب «نعمة»، ولكل مريض، اللهم آمين يا رب العالمين.
** **
كاتب فلسطيني - الرياض