د. سفران بن سفر المقاطي
منذ نشأة وسائل الإعلام التقليدية وتطورها وصولًا إلى الإعلام الحديث، أدت وسائل الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل التصورات الاجتماعية والثقافية لدى الجمهور، وتُعد القصص الشعبية من أبرز الوسائل التي يستخدمها الإعلام لتشكيل هذه التصورات، فهي وسيلة فعّالة لنقل القيم والمعتقدات، ومع ذلك قد تحمل هذه القصص في طياتها صورًا نمطية تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على فهمنا لأنفسنا وللآخرين.
هذه الصور النمطية، سواء كانت إيجابية أو سلبية، غالبًا ما تسهم في بناء تصورات غير دقيقة أو مشوهة مما يؤدي إلى تعزيز التفرقة الثقافية والاجتماعية داخل المجتمعات، وحيث تمثل القصص الشعبية جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي لأي أمة، فهي تعكس القيم والمعتقدات التي تشكل هوية المجتمع، سواء رُويت هذه القصص شفهيًا أو نُقلت عبر الأدب المكتوب أو الدراما أو السينما، فإنها تحمل في طياتها رسائل ضمنية أو مباشرة حول سمات معينة لأفراد أو مجموعات أو أحداث، وعلى الرغم من أهمية القصص الشعبية كوسيلة للحفاظ على التراث الثقافي ونقل التاريخ من جيل إلى آخر، إلا أنها قد تُستغل أيضًا كأداة لترسيخ الصور النمطية، مما يساهم في تكوين تصورات محدودة أو مشوهة عن فئات اجتماعية معينة.
ومع تطور وسائل الإعلام وتوسع تأثيرها، أصبحت القصص الشعبية جزءًا أساسيًا من المحتوى الإعلامي، حيث تم توظيفها في الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية وحتى في الإعلانات التجارية، هذا التوظيف غالبًا ما يهدف إلى تعزيز فكرة معينة أو نشر صورة نمطية متكررة.
على سبيل المثال، يتم تصوير النساء في بعض القصص الشعبية بشكل نمطي على أنهن ضعيفات أو يعتمدن على الآخرين لتحقيق النجاح، بينما تُصور الفئات الاجتماعية الأقل حظًا بصورة سلبية تكرّس الفقر والتهميش، هذه التمثيلات لا تؤثر فقط على الأفراد المعنيين، بل تؤثر أيضًا على المجتمع ككل من خلال تعزيز الفجوات الاجتماعية والثقافية.
من هنا، تُعدّ الصور النمطية شكلًا من أشكال التمثيل المبسّط أو المبالغ فيه لمجموعات من الأفراد أو الثقافات أو المعتقدات، وغالبًا ما تكون مشوّهة أو غير دقيقة، تُستخدم هذه الصور كوسيلة لتبسيط العالم المعقّد وتقديم صورة واضحة وسهلة الفهم للجمهور، ومع ذلك، تستند هذه الصور في كثير من الأحيان إلى أسس غير واقعية أو تستمد جذورها من مواقف تاريخية محددة يتم تضخيمها أو عرضها بشكل غير متوازن.
ولكون الإعلام يؤدي دورًا محوريًا في تشكيل وتعزيز الصور النمطية، حيث تسهم الطريقة التي تُعرض بها القصص الشعبية في ترسيخ هذه الصور في أذهان الجمهور، فعلى سبيل المثال، قد يُسهم الإعلام في تعزيز الصور النمطية عن المجتمع البدوي من خلال تصويره بشكل متكرر كمجتمع متأخر أو غير متطور، مما يرسّخ تصورات مغلوطة حول طبيعة هذا المجتمع، وبالمثل يتم في كثير من الأحيان تقديم الأشخاص من ذوي الإعاقة في إطار نمطي موحّد، مما يؤدي إلى تكوين فهم غير دقيق وغير عادل لتجاربهم الحياتية وقيمتهم في المجتمع.
وللتوضيح أكثر هذه أمثلة على تعزيز الصور النمطية في الإعلام:
-1 السينما الأمريكية والعرقية: على الرغم من التطور الكبير الذي شهدته السينما الأمريكية، إلا أنها كانت ولا تزال وسيلة فعّالة في نشر الصور النمطية التي غالبا ما تكون سلبية، خاصة فيما يتعلق بالعرقيات وأصول المجتمعات، فقد ساهمت العديد من الأفلام في تقديم صورة نمطية مشوهة عن الأمريكيين من أصل أفريقي، حيث تم تصويرهم مرارًا كمجرمين أو أفراد غير متعلمين، على سبيل المثال، فيلم «ولادة أمة» 1915م قدم روايات تعزز هذه التصورات السلبية، هذه الصور النمطية لم تكن مجرد انعكاس لواقع اجتماعي، بل أسهمت في تكريس التحيزات وإدامة الفهم الخاطئ حول هذه الفئة.
-2 الصور النمطية في الرسوم المتحركة: شهدت الرسوم المتحركة منذ بداياتها في العشرينيات والثلاثينيات تبنّيًا واضحًا لبعض الصور النمطية التي قد تكون سلبية أو حتى عنصرية. شخصيات مثل «ميكي ماوس» و»دافي داك»، رغم شعبيتها، حملت في بعض الأحيان سمات ثقافية أو اجتماعية يمكن اعتبارها مهينة للأقليات، بل إن بعض الرسوم المتحركة تضمنت تمثيلات عنصرية مباشرة، مما ساهم في نقل تلك الصور النمطية إلى الأجيال الشابة وترسيخها في وعيهم الجمعي.
-3 القصص الشعبية في الإعلام العربي: في السياق العربي، لم يكن الإعلام بمنأى عن تعزيز الصور النمطية، فقد ساهمت بعض الأعمال الفنية والإعلامية في تقديم الطبقات الاجتماعية الفقيرة بشكل سلبي، وكذلك بعض فئات المجتمع، وأحيانا بعض الجنسيات العربية، وهذه التمثيلات، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، تؤثر على الوعي الجمعي، وتحدّ من تطور النظرة المجتمعية نحو المساواة والعدالة الاجتماعية.
-4 الإعلام الرقمي والتحديات الجديدة: مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، تضاعف تأثير الإعلام في تشكيل الصور النمطية. اليوم، أصبح بإمكان أي فرد نشر محتوى عبر الإنترنت يعزز الصور النمطية أو يناقشها، على منصات مثل «يوتيوب» و»تيك توك»، يمكن أن تنتشر مقاطع الفيديو أو القصص التي تعزز التصورات النمطية بشكل سريع وواسع النطاق، مما يجعل تأثيرها أكثر عمقًا وانتشارًا، إضافة إلى ذلك تُعد وسائل التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لتداول القصص الشعبية التي قد تروّج لأفكار مشوّهة أو مغلوطة عن فئات اجتماعية أو ثقافية معينة.
هذه القصص التي غالبًا ما تستند إلى أساطير أو تصورات خاطئة، تجد قبولًا واسعًا بين مستخدمي الإنترنت، مما يؤدي إلى تعزيز الصور النمطية في المجتمع الرقمي.
ونظراً لأهمية موضوع تأثير القصص الشعبية في الإعلام على التصورات النمطية الاجتماعية والثقافية على المستوى الدولي صدرت العديد من المبادرات والاتفاقيات الدولية لمكافحة تبني أو تشجيع أو نشر الصور النمطية السلبية والتحيزات منها على سبيل المثال لا الحصر:
على المستوى الدولي اعتمدت الأمم المتحدة في عام 1979م اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتي تُلزم الدول الموقّعة باتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في جميع المجالات، بما في ذلك وسائل الإعلام.
تنص الاتفاقية على أهمية تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى التحيز والصور النمطية المتعلقة خاصة بدور المرأة في المجتمعات الإنسانية المختلفة. وفي عام 2001م، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إعلان اليونسكو العالمي للتنوع الثقافي، الذي يعتبر التنوع الثقافي تراثًا مشتركًا للإنسانية، ويهدف الإعلان إلى تعزيز الحوار بين الثقافات واحترام التنوع، مؤكدًا على دور الإعلام في نشر قيم التسامح والتفاهم المتبادل. يدعو الإعلان إلى ضرورة مكافحة الصور النمطية والتحيزات التي قد تُنقل عبر وسائل الإعلام.
أيضا تبنّت اليونسكو في عام 2005م اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، والتي تهدف إلى تعزيز التنوع الثقافي في مواجهة التحديات الناجمة عن العولمة، تشجّع الاتفاقية الدول الأعضاء على اتخاذ تدابير لتعزيز التنوع في وسائل الإعلام وصناعات الثقافة، ومنع الممارسات التي قد تؤدي إلى تهميش الثقافات الأخرى أو تعزيز الصور النمطية السلبية.
أما على المستوى الإقليمي العربي أقرت جامعة الدول العربية الميثاق العربي لحقوق الإنسان عام 2004م، الذي يؤكد على مبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية، يشير الميثاق إلى ضرورة مكافحة التمييز وتعزيز حقوق المرأة، ويعتبر الإعلام أداة مهمة في نشر الوعي بحقوق الإنسان ومكافحة الصور النمطية.
ولمعالجة ظاهرة الصور النمطية السلبية والمتحيزة والمنتشرة بشكل كبير في وسائل الإعلام والمجتمعات المعاصرة كنتيجة هناك بعض الاستراتيجيات قد تكون مناسبة لمعالجتها منها:
-1 التنوع في التمثيل الإعلامي: يُعتبر التنوع في التمثيل الإعلامي أحد أهم الأدوات لمعالجة الصور النمطية.
على وسائل الإعلام أن تسعى لتمثيل جميع الفئات الاجتماعية العرقية والثقافية بشكل عادل ومتوازن، مما يضمن تقديم صورة أكثر شمولًا وواقعية عن المجتمعات المختلفة.
عند تناول القصص الشعبية أو القضايا الاجتماعية، ينبغي أن يراعي الإعلام التعددية الثقافية ويتجنب التعميمات التي تؤدي إلى تشويه الحقائق، هذا يتطلب تقديم شخصيات وقصصا تعكس التنوع الحقيقي في المجتمع، مع التركيز على إبراز الجوانب الإيجابية والمساهمة الفعّالة لكل فئة.
-2 التعليم الإعلامي وتعزيز التفكير النقدي: من الضروري تثقيف الجمهور حول كيفية استهلاك المحتوى الإعلامي بطريقة نقدية.
يُمكّن «التعليم والتثقيف الإعلامي» الأفراد والمجتمعات من التعرف على الصور النمطية في المحتوى الإعلامي والتمييز بينها وبين الحقائق الواقعية، هذه المهارة تساعد الجمهور على تحليل الرسائل الإعلامية بوعي أكبر، مما يقلل من تأثير الصور النمطية عليهم، يمكن تحقيق ذلك من خلال إدراج برامج تعليمية في المناهج الدراسية، وتنظيم ورش عمل ودورات تدريبية تستهدف مختلف شرائح المجتمع.
-3 إشراك صُنّاع المحتوى في التغيير: يؤدي صُنّاع المحتوى، سواء كانوا منتجين سينمائيين أو صحفيين أو منشئي محتوى رقمي، دورًا محوريًا في تشكيل الوعي العام، لذلك، يجب أن يكونوا أكثر وعيًا بتأثير محتواهم على الجمهور، وأن يتحملوا مسؤولية أخلاقية تجاه ما يقدمونه، يمكن تحقيق ذلك من خلال تنظيم حملات توعية داخل قطاع الإعلام، وتشجيع صُنّاع المحتوى على تقديم تمثيلات دقيقة وغير نمطية للواقع، بالإضافة إلى ذلك، من المهم تحفيزهم على استكشاف قصص جديدة ومبتكرة تُسلّط الضوء على التنوع الثقافي والاجتماعي بطريقة إيجابية وبنّاءة.
-4 إيجاد منصات إعلامية بديلة: تشجيع إنشاء منصات إعلامية بديلة يُعد خطوة أساسية نحو تغيير الصورة النمطية في الإعلام.
هذه المنصات يمكن أن تكون مساحة لتقديم قصص شعبية وتمثيلات ثقافية غير نمطية، مما يتيح للجمهور فرصة للتعرف على وجهات نظر وتجارب مختلفة. على سبيل المثال، يمكن دعم منصات إعلامية محلية أو مستقلة تسعى إلى تقديم محتوى يعكس التنوع الحقيقي للمجتمع، كما يمكن تعزيز التعاون بين هذه المنصات والمؤسسات الإعلامية الكبرى لنقل هذه الرسائل إلى جمهور أوسع.
وفي الختام، إن الإعلام يؤدي دورًا محوريًا في تشكيل تصوّراتنا عن العالم من حولنا، حيث يمتلك القدرة على التأثير في طريقة فهمنا للأشخاص والثقافات والمجتمعات، ومن خلال القصص الشعبية التي يرويها، يمكن للإعلام أن يكون أداة قوية لتعزيز التفاهم والتواصل بين الثقافات المختلفة، ومع ذلك قد يتحول هذا التأثير إلى قوة مدمّرة إذا تم استخدامه لنقل صور نمطية مشوّهة أو غير دقيقة، مما يؤدي إلى ترسيخ التحيزات وتعزيز الفجوات الثقافية والاجتماعية.
إن التغيير الإيجابي في طريقة تمثيل الأفراد والمجتمعات في الإعلام لا يقتصر على تحسين الصورة العامة فقط، بل يمتد ليشمل بناء مجتمعات أكثر تماسكًا وتفهّمًا.
فالإعلام، إذا ما استُخدم بوعي ومسؤولية، يمكن أن يصبح أداة لبناء الجسور بين الثقافات، وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة، وإزالة الحواجز التي تعيق التفاهم المتبادل، ليبقى الأمل معقودًا على قدرة الإعلام وصُنّاع المحتوى والجمهور على التعاون من أجل خلق بيئة إعلامية تعكس تنوّع العالم وثراءه، بدلاً من أن تكون مرآة تعيد إنتاج الصور النمطية التي تقيد تطوّرنا الإنساني، وذلك من خلال الالتزام بالمواثيق والاتفاقيات الدولية، السابق ذكرها، يمكننا السعي نحو إعلام أكثر مسؤولية وشمولية، يعكس القيم الإنسانية المشتركة ويعزز التفاهم والسلام بين الدول والشعوب.