د. أحمد محمد القزعل
يشير مفهوم التربية في زمن التكنولوجيا إلى عملية تنشئة الأطفال وتوجيههم في عالم أصبح معتمداً بشكل كبير على الوسائل الرقمية، ولم تعد التربية مقتصرة على تعليم القيم والمبادئ الاجتماعية فقط، بل أصبحت تشمل أيضاً تعليم الطفل كيفية التعامل مع التكنولوجيا بوعي ومسؤولية، كما أنه في هذا العصر يعد تكامل التربية مع الوسائل الرقمية ضرورة لضمان تطور الأطفال بشكل متوازن بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي.
ولعل أهم التحديات التربوية في زمن التكنولوجيا هي الإدمان على التكنولوجيا والاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية الذي قد يؤدي إلى مشكلات إدمانية، مما يؤثِّر على الأداء الدراسي والعلاقات الاجتماعية والصحة الجسدية للأطفال، كما أنه غالباً ما يجد الآباء صعوبة في فهم التكنولوجيا الحديثة التي يتعامل معها أطفالهم مما قد يخلق فجوة في التواصل والتفاهم بين الطرفين، ومن هذه التحديات التعرض للمحتوى غير المناسب فالإنترنت قد يوفر للأطفال إمكانية الوصول إلى محتويات غير لائقة مثل العنف أو المواد الإباحية، مما يشكِّل خطراً على نموهم النفسي والأخلاقي، ولعل الاعتماد الزائد على التواصل الرقمي يؤدي إلى ضعف مهارات التواصل الاجتماعي التقليدي، حيث يفضل الأطفال التواصل عبر الإنترنت بدلاً من اللقاءات الواقعية، ويؤدي الاستخدام المستمر للأجهزة الإلكترونية والشاشات إلى تراجع قدرة الأطفال على التركيز والانتباه لفترات طويلة.
ولا بد من ذكر مزايا التربية في زمن التكنولوجيا ومنها توسيع الفرص التعليمية، حيث تتيح التكنولوجيا للأطفال فرصة الوصول إلى مصادر تعليمية متنوعة عبر الإنترنت مما يساعدهم على اكتساب مهارات جديدة وتوسيع معارفهم، كما تمكن التكنولوجيا الأطفال من تعلم مهارات مثل البرمجة والتصميم الرقمي والتفكير النقدي وهي مهارات أساسية كما نعرف في سوق العمل المستقبلي، هذا وتساعد التكنولوجيا الأطفال على التواصل مع أقرانهم من مختلف أنحاء العالم ما يعزِّز لديهم فهم الثقافات المختلفة والانفتاح على التنوع، وتوفر التطبيقات والألعاب التعليمية فرصاً للأطفال لتطوير إبداعهم وتحليل المشكلات بطرق مبتكرة.
ومن الظواهر السلبية للتربية في زمن التكنولوجيا: العزلة الاجتماعية، حيث يفضل بعض الأطفال قضاء وقتهم على الأجهزة الرقمية بدلاً من التفاعل مع أقرانهم في الحياة الواقعية مما يؤدي إلى العزلة، كما يمكن أن يتعرض الأطفال إلى محتوى ضار سواء أكان ذلك عن طريق الألعاب العنيفة أو منصات التواصل الاجتماعي غير المراقبة، كما يعد التنمر الإلكتروني أحد أبرز المخاطر التي يواجهها الأطفال في الفضاء الرقمي، حيث قد يتعرضون للاعتداءات النفسية والمضايقات عبر الإنترنت، هذا وإن قضاء ساعات طويلة أمام الشاشات يؤدي إلى مشكلات صحية مثل ضعف النظر وآلام الظهر بالإضافة إلى قلة النشاط البدني.
لقد أصبحت التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية ويعتمد أطفالنا بشكل متزايد على الأجهزة الذكية والإنترنت وهو ما يجعل مهمة الآباء أكثر حساسية في توجيههم نحو استخدام صحيح ومتوازن لهذه الأدوات، ومن المهم الابتعاد عن التكنولوجيا في السنوات الأولى، حيث تعتبر السنوات الثلاث الأولى من حياة الطفل مرحلة حاسمة لتطوير المهارات الأساسية مثل اللغة والعواطف والحركة؛ لذا يُفضَّل الابتعاد عن التكنولوجيا خلال هذه الفترة وتشجيعهم على ممارسة الأنشطة الحسية واللعب بالأدوات الحقيقية بدلاً من تعريضهم لشاشات الأجهزة، فبدلاً من مشاهدة فيديو كرة على الهاتف يمكن إحضار كرة حقيقية ليقوم الطفل باللعب بها.
كما يجب وضع حدود زمنية وتحديد أوقات محددة لاستخدام الأجهزة الإلكترونية لتجنب الإفراط في استخدامها، ومن الضروري مراقبة ما يشاهده الأطفال وما يتفاعلون معه عبر الإنترنت وذلك باستخدام برامج الرقابة الأبوية أو التواصل الدائم معهم، وضرورة توجيه الأطفال إلى كيفية استخدام التكنولوجيا بشكل إيجابي ومسؤول وتعليمهم التمييز بين المحتوى الجيد والمحتوى السيئ، مع تشجيع الأطفال على ممارسة الأنشطة البدنية والمشاركة في النشاطات الاجتماعية الواقعية لتعزيز توازن حياتهم، وخلق حوار مفتوح مع الأطفال حول تجاربهم في العالم الرقمي وتشجيعهم على التحدث عن أي مشكلات أو تحديات يواجهونها، والأطفال يتعلّمون بشكل كبير من خلال تقليد سلوكيات والديهم؛ لذا يجب على الآباء أن يكونوا نموذجاً يُحتذى به في التعامل مع التكنولوجيا ويمكن إظهار القدوة الجيدة بإغلاق الهواتف أثناء تناول الطعام أو عند قضاء وقت مع العائلة.
هذا ومن الطبيعي أن يتخوف بعض الآباء من المخاطر التي قد تحملها التكنولوجيا لأطفالهم، فيميلون إلى منعهم منها، لكن هذا النهج قد يحرم الأطفال من مهارات ضرورية للعصر الحديث ويزيد الأمر تعقيداً، فالحل الأمثل هو الاعتدال وبدلاً من منعهم من استخدام هذه التكنولوجيا بشكل كامل نعلّمهم كيفية استخدامها بحكمة ومسؤولية.
التربية في زمن التكنولوجيا تتطلب وعياً كبيراً بالتحديات والمخاطر التي يمكن أن تواجه الأطفال، لكنها في الوقت نفسه تتيح فرصاً هائلة للتعلّم والتطور، ولعل من خلال التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا ومراقبتها بحذر يمكننا مساعدة أطفالنا على النمو في بيئة صحية تجمع بين العالمين الرقمي والواقعي، كما تظل مسؤولية الآباء والمربين هي الأهم في توجيه الأطفال نحو الاستخدام المسؤول والآمن للتكنولوجيا مما يساعد على خلق جيل يتمتع بالمهارات اللازمة لمواجهة المستقبل دون أن يفقد قيمه أو إنسانيته.