د.حادي العنزي
لم يعد يُنظر إلى الشيب على أنه مجرد علامة على تقدم العمر، بل أصبح إضافة جمالية، ومرحلة عمرية تجمع بين جرأة الشباب وحكمة الشيوخ، وصار الشعر الأشيب رمزاً للرجل العصري المتميز، الذي يوازن بين العقل والعاطفة في عصرٍ تقوده التقنية، وتُشكله وسائل التواصل الاجتماعي بين العرض والطلب وتحت غطاء العولمة والفردانية.
ويُلاحظ مؤخراً انتشار نمط الرجل العصري في الأسواق والمقاهي وتوزيعه كعلامةٍ فريدة وبأشكالٍ أنيقة، فلا تكاد تمر في مكانٍ إلا وترى رجلاً أشيب يمشي وفي يده سبحة ملونة تعكس ميوله الرياضية. أو تجده مُتمركزاً في ركنٍ استراتيجي بالمقهى، يحجزه يومياً لتناول قهوته التي تكون غالباً بدون سكر. نظراته مُحددة وحادة فهو إما يسترق البصر حوله أو يركز في شاشة جواله من خلف نظارته الطبية.
هؤلاء الرجال لطفاء جداً، ملابسهم أنيقة تجمع بين الزركشة والبهرجة، عطورهم فواحة، لحاهم بيضاء ومحددة من الجوانب، ولها استطالة تتدلى للأسفل حتى منتصف الحلق؛ لكنهم مُتناقضون و(ملاقيف) في معظم الأحيان.
إذا تحدثت إلى أحدهم وجدت لسانه يقطر (عسلاً)، والابتسامة لا تفارقه، ما أن يسمع لهجتك يُحدد من أي منطقة أنت؛ يسألك فوراً هل تعرف فلان وفلان، ثم يسرد القصص والحكايات عن قريتك وأهلك والماضي والحاضر، كل شيء يعرفه وفي كل شيء يتحدث: اقتصاد، رياضة، فن، أدب.. وكل موضوع يدخل فيه ويخرج منه بسلاسة!
إنهم كائنات غامضة وظريفة، يُطلق عليهم أصحاب السوق والمقاهي: شوقر دادي (Sugar Daddy)، وهو وصف أجنبي يُقال للرجل ذو الشعر الأبيض صاحب الكاريزما الجريئة، الذي يتبادل المصالح مع من هم أصغر منه بطريقةٍ غير تقليدية، مقابل منافع مستترة؛ لتحقيق الأهداف أو المصالح دون النظر إلى نوعية أو قانونية هذه الأهداف.
وهذا المصطلح له دلالات رمزية ثقافية لمفاهيم سلبية عند المجتمعات المحافظة، بينما تراه المجتمعات غير المحافظة أسلوب طبيعي وعملية نفعية متبادلة بين طرفين!
وقد ظهرت هذه الشخصية مؤخراً في الثقافة العربية حول وصف الأب الذي يتمتع بمظهر جذاب أو وسيم، وأهم ما يميز صاحبها تركيزه على الجماليات البصرية والأناقة، متجاوزاً الدلالات الأخرى المرتبطة به في الثقافة الغربية، وكانت بداية الظهور من الوسائط الاجتماعية العربية، تأثراً بالمحتوى الغربي، بعد ذلك تم توطين المصطلح وتكييفه مع الثقافة العربية، حيث أصبح يركز على هندام المظهر الرجولي.
ورغم أنه لا توجد مصادر رسمية تؤرخ لظهور وتطور هذه الشخصيات في عالمنا العربي؛ إلا أن السنتين الأخيرتين تكشفان تنامي أعدادهم بكثرة.
وفي المجتمع السعودي تختلف النظرة إلى ظاهرة «الشوقر دادي» باختلاف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، فبينما يراها البعض تعبيراً طبيعياً عن التطور الاجتماعي والانفتاح الثقافي، يعتبرها آخرون خروجاً عن المألوف في المجتمع التقليدي.
وهذا التباين في وجهات النظر يعكس حالة التحول التي يمر بها المجتمع.
في المجال الأسري، أثرت هذه الظاهرة على العلاقات العائلية بشكلٍ ملحوظ. فالأب «الشوقر دادي» غالباً يكون أكثر انفتاحاً في تواصله مع أبنائه، وأكثر مرونة في تعامله مع التغيرات الاجتماعية، مع احتفاظه بدوره التقليدي كقائد للأسرة ومصدر للحكمة والتوجيه، وقد ينتكس ويكون أكثر تشدداً، وأصعب تعاملاً، وأسوأ إهمالاً لأسرته!
كما أثر هذا المفهوم على العلاقات المهنية والاجتماعية، فالرجل في هذه المرحلة يجد نفسه في منافسة مستمرة مع الأجيال الأصغر في سوق العمل، وهذا يدفعه للحفاظ على مظهره وحيويته؛ مما ساهم في تغيير الصورة النمطية للموظف كبير السن.
ومن الجوانب المهمة في هذه الظاهرة تأثيرها على الصحة النفسية والجسدية، فقد أصبح الرجال في هذه المرحلة العمرية أكثر اهتماماً بصحتهم وممارسة الرياضة والتغذية السليمة، وهذا انعكس إيجاباً على جودة حياتهم وحيويتهم.
ويرتبط هذا التحول بالتغيرات الاقتصادية التي شهدتها المملكة؛ فالرجل في هذه المرحلة العمرية غالباً يكون قد حقق استقراراً مادياً ومهنياً، مما يتيح له الاهتمام بمظهره وأسلوب حياته، فظهرت أسواق تستهدف هذه الفئة بمنتجات متخصصة وخدمات متنوعة في العناية الشخصية والموضة والصحة. مما أدى إلى ازدهار وتطور صناعة مستحضرات التجميل والعناية بالشعر الأبيض والبشرة الناضجة.
كما أصبحنا نرى حسابات مُتخصصة تقدم النصائح في الأناقة والموضة للرجال في هذه المرحلة العمرية، وبدأت هذه الظاهرة تتمدد إلى بعض أفراد المجتمع من الرجال ويتداولونها في الاستراحات ومجالسهم العامة، مع وجود تنوع في تفسيرها والاهتمام بها وتطبيقها حسب المفهوم الشخصي للفرد وبناءً على نشأته الاجتماعية.
لقد أسهمت هذه الظاهرة في تغيير نمط التواصل بين الأجيال؛ فأصبح هناك جسر ثقافي يربط بين جيل الآباء والأبناء، وهو من المحمودات الإيجابية التي ساهمت في بناء التفاهم المتبادل واحترام الاختلافات الثقافية، لكن في أحيانٍ أخرى قد يُستخدم في التفاهم السلبي غير المحمود الذي يضر بالمجتمعات.
ومع التطور الاجتماعي والاقتصادي في المملكة، من المتوقع أن تستمر هذه الظاهرة، حيث يتكيف أفراد المجتمع السعودي مع المتغيرات العصرية بسرعة، وهذا يتطلب وزن المتغيرات الاجتماعية مع سرعة العصر، حتى لا يختل التوازن عند (بعض) أفراد المجتمع، فيذهبون إلى ممارسات قد لا تُطابق الصورة الحقيقية لمجتمعنا.
إن هذه الظاهرة لا تخص بالدرجة الأولى الجهات الرقابية، وإنما هي دور رئيس للقائمين على مراكز البحوث والدراسات والمختصين في علمي النفس والاجتماع للقيام بدراسة وتحليل ظاهرة «شوقر دادي» وفهم أبعادها وتأثيراتها المستقبلية على المجتمع السعودي.