د. طارق بن محمد بن حزام
تخيّل أنك جالسٌ وسط حشد، من الناس، الجميع يتحدثون، ويتبادلون أطراف الحديث، ومع ذلك تشعر، وكأنك خارج الدائرة في زمنٍ أصبحت فيه الهواتف الذكية والتطبيقات الرقمية وسيطًا للتواصل، تتخذ العزلة الاجتماعية شكلًا جديدًا تختبئ وراء صور جميلة وتعليقات مقتضبة لكنها تعمِّق فجوة العزلة أكثرمما نتوقع.
إذ لم تعد العزلة الاجتماعية حكرًا على الأشخاص الانطوائيين أوكبار السن، كما قد يتصور البعض، ففي عالمنا المعاصر، يمكن لشابٍّ في العشرينيات أن يختار العزلة لا شعور برغم أنّه محاط بمئات الأصدقاء الرقميين.
قد يبدأ الأمر بقرارٍ بسيط أنا بحاجة إلى بعض الوقت وحدي ثم يتكرر هذا القرار مرارًا وتكرارًا إلى أن تصبح الخلوة جزءًا من روتينك اليومي؛ إذ تصبح الدردشة مع نفسك أسهل، من خوض نقاشٍ قد لا يتفهّمك الآخرون فيه. وقد تلاحظ أنّ المهام الاجتماعية العادية مثل، لقاء الأصدقاء أو زيارة الأقارب باتت مرهقةً أكثر من، ذي قبل وهنا ينتقل الفرد من «استراحة مؤقتة» إلى «عزلة دائمة» قد تُلحق أضرارًا عميقة بالصحة النفسية في عالم الوهم الرقمي، يكتفي كثيرون بمحادثات النص والصور و«الإعجابات» في مواقع التواصل، بينما يغيب التواصل الوجاهي الذي يبعث الدفء في الروح وينعش الاستقرار الأسري.
وهنا مكمن الخطورة، إذ لا تقتصر العزلة على شعورٍ عابرٍ بالوحدة، بل تتوسّع رقعتها لتطال أبعادا نفسية أخطر منه الاكتئاب، والقلق: حين لا يجد المرء من يشاركه همومه، قد تتحوّل الأفكار السلبية إلى كرة ثلج تكبر يومًا بعد يوم، وتسدّ عليه منافذ الأمل.
تدنِّي قيمة الذات: العلاقات الاجتماعية هي المرآة التي نرى أنفسنا فيها، وعندما نخسر هذا الانعكاس، نفقد جزءًا من إدراكنا لقيمتنا لدى الآخرين.
ضعف مهارات التواصل المكتسبة بالتمرين: فكلما ابتعدنا عن الاحتكاك اليومي بالآخرين أصبحت العودة أصعب، وبات الشعور بالحرج، أوالخجل شديدًا إذا قررنا الخروج من قوقعتنا.
وقد يبدو الخروج من دائرة العزلة أمرًا شاقًّا، لكنه ليس مستحيلًا، خاصةً إذا تحلّينا بالرغبة الحقيقية في إعادة بناء الجسور، ومن تلك الوسائل:
- التواصل والبحث عن رفقاء في الاهتمامات المشتركة: جرِّب الانضمام إلى نادٍ ثقافي أو رياضي أو المشاركة في نشاط تطوعي فالتفاعل مع أشخاص يشبهونك في الشغف يخفف رهبة البداية.
- اللقاءات: الواقعي بدل الرقمي، مهما كانت التطبيقات مريحة يبقى للقاءات الوجاهية سحرٌ يحيي الروح ويعيد الدفء للعلاقات.
- استشارة أخصائي نفسي: قد تكون هذه الخطوة الأنجع في الحالات الشديد، فهو يساعد على تفكيك الأسباب الكامنة وتطوير استراتيجيات للتغلب على الوحدة.
- تنظيم الوقت والأولويات: خصِّص يومًا أو يومين في الأسبوع للقاء الأهل والأصدقاء، وتعامل مع هذه الأوقات كما تتعامل مع أي موعد عمل لا يُسمح بتأجيله.
وختاماً: إن حاجتنا إلى التواصل الاجتماعي لا تلغي رغبتنا الطبيعية في الحصول على بعض العزلة الهادئة فالتوازن هو كلمة السر، وما علينا إلا الاعتدال في العزلة حتى لا تتحوّل إلى سجنٍ من صنع أيدينا، يمنعنا من اكتشاف عالم الطبيعة الخلاب، والاستمتاع ببهجة التواصل الاجتماعي الإنساني.