إن اتجاهات سوق العمل في المملكة العربية السعودية تشير إلى تباين ملحوظ في حجم القوى العاملة السعودية وغير السعودية. ويهيمن العاملون غير السعوديين على سوق العمل حيث ارتفع عددهم من 9.36 مليون عامل في الربع الثالث 2021 بوتيرة سريعة ليبلغ عددهم 12.9 مليون عامل في الربع الثاني من عام 2024، وفي المقابل ارتفع عدد العاملين السعوديين من 3.28 مليون عامل إلى 3.93 مليون عامل خلال نفس الفترة.
ويؤكد هذا الخلل الهيكلي في سوق العمل على استمرار اعتماد الاقتصاد السعودي على العمالة الوافدة، خاصة في القطاعات التي تتطلب مهارات متخصصة أو في وظائف أقل رغبة من قبل المواطنين السعوديين، وإن توسع حجم القوى العاملة غير السعودية بهذه الوتيرة إنما يعكس اعتماد اقتصاد المملكة المستمر على العمالة المهنية في قطاعات مثل الإنشاء والضيافة واعتمادها على الخبرات الأجنبية في قطاعات مثل الصناعة والرعاية الصحية.
كما يشير النمو المتواضع نسبياً في العمالة السعودية مقارنة بالقوى العاملة غير السعودية إلى عدم التطابق القطاعي، حيث تظل العمالة غير السعودية متركزة في النشاطات الأقل تفضيلاً من قبل المواطنين السعوديين كقطاع الإنشاء وتجارة التجزئة. ويتطلب سد هذه الفجوة تعزيز مواءمة المهارات المهنية والخبرات التخصصية من خلال مبادرات التعليم والتدريب المصممة بما يتناسب مع المشهد الاقتصادي المتطور. ومن جانبها الإيجابي، فإن هذه القوة العاملة غير السعودية المتزايدة تساهم في تعجيل وتيرة النمو الاقتصادي التي شهدها الاقتصاد السعودي بعد تعافيه من وباء كورونا. ولكنها أيضاً تسلط الضوء على التحدي الهيكلي في سوق العمل والمتمثل في خفض مستويات البطالة بين السعوديين، والسعي نحو تحقيق أهداف توطين سوق العمل.
وبشكل عام فمنذ الربع الثالث لعام 2021 وحتى الربع الثاني لعام 2024، يُظهر معدل البطالة في المملكة العربية السعودية تقلبات ملحوظة متأثرة بالإصلاحات الاقتصادية الهيكلية من ناحية والصدمات الخارجية من ناحية أخرى، مثل فيروس كورونا. وفي عام 2017، بلغ معدل البطالة بين السعوديين 12.65 %، وارتفع قليلاً إلى 12.78 % في عام 2018، مما يعكس التحديات في إصلاحات سوق العمل في إطار رؤية 2030. وبلغ المعدل ذروته عند 15.45 % خلال الربع الثاني من عام 2020، حيث أدى الوباء إلى تعطيل النشاط الاقتصادي وتسريح العاملين، مما أكد نقاط الضعف في سوق العمل. غير أنه مع ثبات دعم المبادرات الحكومية وجهود التنويع الاقتصادي، انخفض معدل البطالة بشكل ملحوظ إلى 11.78 % بحلول الربع الأول من عام 2021 واستمر في الانخفاض ليصل إلى 7.09 % في الربع الثاني من عام 2024، (الرسم البياني رقم 1).
ويشير هذا التحسن إلى خفض معدل البطالة إلى فاعلية تدابير سياسة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية التي تهدف إلى خلق فرص عمل للمواطنين السعوديين، وجعلها حصصا إلزامية للعاملين السعوديين في الشركات الخاصة والاستثمارات في القطاعات ذات إمكانات التوظيف العالية، وتؤكد اتجاهات سوق العمل على أهمية استمرار الإصلاحات، بهدف تقليل الاعتماد على العمالة غير السعودية وتحقيق المزيد من خفض معدل البطالة. ولذا يجب أن تركز السياسات على توسيع فرص العمل ذات القيمة العالية، وتعزيز ريادة الأعمال، وتحفيز شركات القطاع الخاص على الاستثمار في تنمية الكوادر السعودية.
وفي حين خطت المملكة العربية السعودية خطوات كبيرة في الحد من البطالة وتعزيز مشاركة القوى العاملة، فإن الهيمنة المستمرة للعمالة غير السعودية والحاجة إلى التنويع القطاعي تمثل تحديات مستمرة، وستكون معالجة هذه القضايا من خلال تدخلات السياسة العامة المستهدفة أمرًا أساسيًا لتحقيق سوق عمل مستدام وشامل.
ولا شك أن اتجاهات معدلات المشاركة في سوق العمل في المملكة ومستويات البطالة للذكور من عام 2017 إلى عام 2024 أظهرت تحسناً مستمرا، حيث ارتفعت من 61.9 % في الربع الأول من عام 2017 إلى أعلى مستوى عند 66.9 % في الربع الثالث من عام 2024.
ومع ذلك، شهدت مشاركة الإناث في القوى العاملة نموًا ملحوظًا، مما يعكس إصلاحات اجتماعية واقتصادية كبيرة تتماشى مع رؤية السعودية 2030. وقد ارتفعت مشاركة الإناث من 17.4 % فقط في الربع الأول من عام 2017 إلى 36.2 % بحلول الربع الثالث من عام 2024، أي أكثر من الضعف في غضون سبع سنوات. وهذا يسلط الضوء على الجهود المستمرة لدمج المرأة في القوى العاملة، وهو عنصر أساسي في أجندة التحديث في المملكة العربية السعودية والتنويع الاقتصادي، على النحو المبين في مبادرات رؤية 2030.
وتكشف اتجاهات البطالة عن أنماط متفاوتة بين الجنسين، حيث جاءت معدلات البطالة بين الذكور أقل بكثير من معدلات البطالة بين الإناث عبر الفترة الزمنية 2016 و 2024. وقد تراجعت البطالة بين الذكور بشكل مطرد خلال هذه الفترة، حيث انخفضت من 5.87 % في الربع الرابع من عام 2016 إلى مستوى منخفض بلغ 3.99 % في الربع الثاني من عام 2024، مما يعكس أن استيعاب القوى العاملة الذكور أصبح جيدًا. ويسلط هذا الاتجاه الضوء على الطلب المستمر على العاملين الذكور في مختلف القطاعات، وخاصة تلك التي يهيمن عليها الرجال تقليديا، مثل البناء والتصنيع.
في المقابل، بلغت البطالة بين الإناث ذروتها عند 31.4 % في الربع الثاني من عام 2020 خلال الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن كوفيد-19، لكنها أظهرت اتجاها تنازليا بعد ذلك، وانخفضت البطالة بين الإناث إلى 12.8 % في الربع الثاني من عام 2024 قبل أن ترتفع بشكل طفيف إلى 13.6 % في الربع الثالث من عام 2024. ويمكن أن يعزى هذا التقلب إلى زيادة عدد النساء اللائي يدخلن سوق العمل، وهو ما يفوق مؤقتًا معدل خلق الوظائف الذي يتناسب مع مشاركتهن. ويتماشى هذا الانخفاض مع الزيادة المتزامنة في مشاركة الإناث في العمل، مما يشير إلى أن وتيرة الإصلاحات المشجعة لتشغيل النساء بدأت تؤتي نتائج ملموسة.
ومع ذلك، فإن التفاوت بين الجنسين في معدلات البطالة لا يزال قائما، مما يشير إلى الحاجة إلى مزيد من التعديلات الهيكلية لتحقيق قدر أكبر من التكافؤ في سوق العمل في المملكة. ومن الأهمية بمكان أن تستمر الجهود الرامية إلى سد الفجوة بين الجنسين، مثل تعزيز الإدماج في مكان العمل، وتعزيز مهارات القوى العاملة النسائية.
وفي الجانب الآخر يتطلب الحفاظ على معدلات بطالة منخفضة بين الذكور نموًا اقتصاديًا مستدامًا وتنويعًا قطاعيًا لاستيعاب متطلبات القوى العاملة الأوسع، (الرسم البياني رقم 2).
1- أعداد العاملين السعوديين وغير السعوديين في سوق العمل ومعدل البطالة للسعوديين
2- اتجاهات المشاركة بين الجنسين في سوق العمل السعودي ومعدلات البطالة للجنسين
** **
ا.د. هدى منصور - أستاذ الاقتصاد متخصص بتحليل البيانات والابتكار الاقتصادي