د. محمد بن إبراهيم الملحم
التدريس فن وموهبة قبل أن يكون علما يتعلمه الإنسان في كليات التربية أو كليات المعلمين وعلى الرغم أن هذه الكليات تقدم لطلابها المهارات التي يجب أن يمتلكها المعلم لكي يؤدي تدريسا جيدا، إلا أنها في واقع الأمر تقترض هذه المهارات من ملاحظة علماء طرائق التدريس وفنونه للمعلمين الأوائل الذين امتلكوا هذا الفن وهذه الموهبة، فأعادوا صياغة أفعال وتصرفات هؤلاء الموهوبين موهبة فطرية طبيعية في صورة «أدلة عمل» سميت «طرائق التدريس ومهاراته» ليتم تدريب طلاب كليات المعلمين والتربية عليها، نضيف إلى ذلك مشاهداتنا الكثيرة في الحياة التي لاحظنا فيها أناسا رزقهم الله هذه الموهبة، حتى لو لم يكونوا معلمين، فتجد أحدهم إذا تحدث في مجلس من المجالس يحسن شرح الموضوع الذي يتحدث فيه بأحسن طريقة وأسلوب ويمثل لك مفاهيمه بأمثلة وتصويرات تحول تلك المفاهيم المجردة والأفكار الجافة إلى صور قابلة للهضم والاستيعاب والاقتناع، لذلك فإن هؤلاء الموهوبين هم «معلمون بالفطرة» حتى لو كانت وظائفهم ومجالاتهم الهندسة أو الطب أو المحاسبة أو حتى لو كانوا أناسا من العوام لم يتلقوا العلم أصلا. عندما نتأمل هذه الحقائق فإنها جميعا تؤكد لنا أن «التدريس» في ذاته فن وموهبة يمنحها الله لمن يشاء.
أحيانا تكون درجة هذه الموهبة عالية جدا فيرن صداها في طبيعة حاملها لتتحول إلى شغف وتطلع للتدريس ولا نستغرب أن كثيرا من هؤلاء الذين هم ليسوا معلمين تجدهم قد انخرطوا بشكل أو بآخر في سلك التدريب في مجالاتهم التي هم متخصصون فيها، ولكن ماذا لو كان هذا الشغف موجودا عند فئة الشباب الذين هم في بداية حياتهم الدراسية: منذ المرحلة الثانوية مثلا، فلنا أن نتصور عندئذ أن أحد هؤلاء سيرغب أن يكمل دراسته في المجال الذي يؤدي به إلى أن يصبح معلما فيتخصص في أحد العلوم العلمية أو الإنسانية و ويحصل على دبلوم تربوي ليؤهله لوظيفة التدريس بشكل رسمي، لا طلبا للوظيفة فقط ولكن يوازي ذلك رغبة داخلية لإرضاء شغف يلح عليه. وهنا يبدر تساؤل حول مثل هؤلاء: كيف لنا أن نتصور مدى إقبالهم على وظيفة التدريس وهل يا ترى يتوافر في مجتمعنا وجامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية من معالم الجودة والنضج ما يكفي لجذب هؤلاء إلى مهنة التدريس والتأكيد لهم أن هناك ما يرضي شغفهم لمهنة التدريس! أم أنهم قد يضحوا بشغفهم أمام واقع يشاهدونه في بيئة التدريس مما لا يشجعهم كثيرا على التضحية بفرص وظيفية أخرى قد تكون خيارا أفضل.
هل يمكننا أن نتصور برنامجا تقوده المؤسسة التعليمية من أجل اكتشاف الطلاب الموهوبين في عملية التدريس وتشجيع هؤلاء على أن يسيروا في مسار تخصصي يؤدي بهم في النهاية إلى هذه المهنة؟ وأرى أن هذا يمكن أن يبدأ من نشاط مشهور في أوساط المدارس لدى بعض المعلمين المتميزين الذين يحبون أن يطبقوا أساليب تدريسية حديثة وهو نشاط «المعلم الطالب» حيث يكلف المعلم بعض الطلاب الذين يرغبون في المشاركة بأن يجهز أحدهم موضوع الدرس القادم فيتعلمه ذاتيا في المنزل ليأتي ويشرح بدلا عن المعلم، ومع أنه لا يتوقع منه شرحا كافيا وافيا كما هو شرح المعلم ولكن هو على الأقل يقدم ما يمكن أن تكون نسبته 50 إلى 60 % من المعرفة العلمية التي كان سيقدمها المعلم ليكمل الأستاذ بعد ذلك، وهنا نجد أن الطالب يكتسب المهارة على التدريس كما أنه من خلال تحضير الدرس يكتسب معارف ومهارات الدرس فيه بمستوى عال جدا جدا وهو ما تنطبق عليه المقولة الصينية: اسمع اعرف، انظر افهم، أتكلم لا أنسى، فعندما يشرح الطالب أي أنه يتكلم بما فهمه فإنه لن ينساه بعد ذلك.. إن مثل هذا النشاط يمكن أن يكون البذرة الأولى لتكوين معلم المستقبل الذي ترعاه المؤسسة التعليمية وتشجعه لينضم إليها بعد أربعة إلى سبعة أعوام من دراسته في المرحلتين الثانوية والجامعية ليصبح معلما متميزا، يرضي شغف التدريس لديه مع حصوله على كمية كافية من الرعاية والتدريب منذ نعومة أظافره في المرحلة الثانوية (وربما منذ المتوسطة أيضا).
مثل هذا التفكير إن وجد فإنه سيدل على نشاط واهتمام ورعاية لمهنة التدريس ونظرة مستقبلية طموحة واحترام وتقدير عال للمهنة فهي حينها تعامل كما تتعامل بعض الشركات العملاقة القوية التي تبحث عن أصحاب المواهب والقدرات العلمية الجيدة في مجالات الهندسة والصناعة والإدارة والقانون فتحتضنهم منذ أن يكونوا طلابا في الجامعة إذ تعرض على هؤلاء المتفوقين أن ينضموا إليها وهم طلاب ليصبحوا فيما بعد من قادة العمل الهندسي فيها والمتصدرين لحل مشكلاتها والارتقاء بها، وهي نفس الصورة التي نتوق إليها في حالة التعليم أن يوجد من ينهض به ويرتقي به، وهذا الشخص لن يكون المسؤول أو الإداري أو الخبير التربوي بقدر ما هو المعلم المتقن الموهوب المتطلع لمهنة التدريس والمحب لها الذي يعمل ليل نهار من أجل تطوير ذاته فيها، هؤلاء فقط هم من ينهض بالتعليم متى وجدوا (أو استنبتوا).
** **
- مدير عام تعليم سابقا