سهام القحطاني
«التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس إلا وهماً مستمراً وعنيداً» أينشتاين
يقسم هيجل الكتابة التاريخية إلى ثلاثة طرق الطريقة الأولى، التاريخ الأصلي وهو التاريخ الذي كُتب في العصر ذاته برواية ورؤية من عاشوه، والطريقة الثانية التاريخ النظري ويتفرَّع منه حسب هيجل إلى التقليدي والبرجماتي ويقف هيجل في هذا الفرع معارضاً لفكرة «أن التاريخ يعيد نفسه» لنتعلّم منه؛ لكنه لا يُدخل المبادئ والفضائل ضمن إطار تلك المعارضة؛ باعتبار أن الفضائل ثابتة ولكن الوقائع غير متكررة، والفرع الثالث النقدي وفي هذا الفرع يفرق هيجل بين الوقائع التاريخية والرواية التاريخية التي قد يقع فيها التزوير والتشويه.
والفرع الرابع من التاريخ النظري هو الذي يجمع بين الجزئية في التصنيف والعمومية في التطبيق؛ بأن يختار المؤرِّخ مؤثراً من المؤثرات التاريخية ويطبق أثره عند الشعوب، أما الطريقة الثالثة فهي التاريخ الفلسفي».
ويقصد «بالتاريخ الفلسفي دراسة التاريخ من خلال الفكر، وهو بذلك يجرد المادة التاريخية من ممثلاتها المختلفة الوقائع والطقوس مكتفياً بالمضمون الفكري الذي أسهم في تشكيل تلك الممثلات، وإن كان هناك من عارض هذه البحتيّة في تفسير التاريخ بعيداً عن ممثلاتها كونها هي الآثار الدالة على ماهية الفكر.
فهيجل يتعامل في هذه الطريقة وفق «جوهر الفكر لا تمثيلاته» باعتبار أن الفكر يسبق الفعل أو التمثيل؛ فقدرية الوجود مثلاً لا تنطوي في اكتشاف النار، واكتشاف طرق الزراعة، بل هي قدريّة مكنت المرء من التفكير في معنى ذات الوجود ودلالاته ثم دفعته للبحث عن ممثلات تحقق هذه المعاني.
فهو يرى أن علاقة الفكر الإنساني بالوجود علاقة صراع للبحث عن حرية مستدامة ولذا في رأيه تظل الثورات؛ لتفكيك أي قيود تحاكي التكرار.
وبذلك يصبح السبب والنتيجة للواقعة التاريخية مجرد أعراض جانبية لجوهر الفكر ذاته المتصاعد، ومن هنا جاء ارتباط التاريخ «بالصيرورة» عند هيجل، ولذا يرفض مقولة التاريخ يعيد نفسه؛ لأنها مقولة تتنافي مع مبدأ الصيرورة الحركة المتغيِّرة والمتنامية للفكر المُنتج للحدث المتغيِّر في حين أن مقولة التاريخ يعيد نفسه هي مقولة تشترط تكرار الحدث وتجميد تطور الفكر المنتِج للوقائع الحيَّة.
وكان الفيلسوف اليوناني «هرقليطس» أول من أنشأ متلازمة التاريخ والصيرورة وجعلها شرطاً لتحقق «الكينونة» الماهية التي تشكِّل الذات والصفة.
أما فيكو الفيلسوف الإيطالي فلا يتوافق مع هيجل في رؤيته الفلسفية للتاريخ وبرز عدم التوافق في مسألتين في كتابه «العلم الجديد في الطبيعة المشتركة لكل الأمم».
والمسألة الأول تبرز في فلسفة التاريخ عند «فيكو» فالتاريخ حركة دائمة كما هو الأمر عند هيجل، لكن حركة تسير في دوران وتعاقب وليس في تصاعد لا نهائي كما عند هيجل، ولذا فإن إمكانية تكرار الأحداث ممكنة في هذه الحركة، وهو ما يرفضه هيجل في مبدأ صيرورة التاريخ، باعتبار أن العقل البشري يتطور وبذلك فلن يقع في ما وقع فيه الأسلاف وهو ما ينفي تكرار الأحداث.
كما يرى فيكو أن التاريخ هو أصل الحقيقة وليس العلم؛ لأننا نقيس على ثابت بالتكرار وليس ظاهري متغيِّر.
ويرى أن العلم الذي يدرس آثار الحضارات الأخرى ما هو سوى دراسة «تاريخ الأفكار والعادات والإنجازات البشريّة، وهذه التواريخ الثلاثة ستبرز مبادئ تاريخ الطبيعة البشرية»، «العلم الجديد في الطبيعة المشتركة لكل الأمم».
والمسألة الثانية إن التمثيلات «ثقافة الشعوب ونظمهم وقوانينهم» هي كما يراها هيجل حاصل جوهر الفكر وليست دلالة على جوهر الفكر، فالفكر هو الذي يخلق حاجة الإنسان وليست حاجة الإنسان هي التي تخلق الفكر؛ باعتبار أن الحاجة تتنافى مع الصيرورة.
لكن الأمر يختلف عند فيكو فهو يعتبر تلك التمثيلات التاريخية براهين تقيس التحولات الفكرية عند الإنسان، فنحن نكتشف تطور العقل من خلال تطور تلك التمثيلات، فهي إرادة العقل، وليست مجرد صوته كما يرى هيجل.
لكن من الغريب رغم اختلاف المقدمتين عند هيجل وفيكو إلا أنهما يتفقان ضمنيا بأن «العقل هو موضوع المعرفة التاريخية» وإن كان العقل المقصود عند فيكو هو «الذات العارفة» «وبما أن عالم الأمم قد صنعه البشر، ففي عقول أولئك البشر أنفسهم يجب أن نبحث عن المبادئ» وليس جوهر العقل كما عند هيجل.
ويؤكد على تلك الذات العارفة التي تتجلى في غياب البراهين «إن طبيعة العقل الإنساني تجعله يفسر الظاهرة التي يجهلها إلى أسباب يستمدها من طبيعته نفسها» وهو قول يذكرنا بتعريف أينشتاين للعلم بأنه ليس «مجموع قوانين، بل هو خلق العقل الإنساني لتصوراته».
وهو بهذه المقاربة يقرر أن التاريخ هو «العلم الجديد» قرار أكده من خلال عنوان كتابه.
فهل هذه المقاربة صحيحة؟ الإجابة في حديث آخر.