د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ليس غريبًا أن يصوغ هذا العنوان الجميل بسجعه أستاذ البلاغة، أستاذنا الدكتور أبوعليّ محمد بن عليّ الصامل، كتاب بالغ الأناقة والإتقان، جميل خطوط الغلاف، ورسم معبر عن معنى العنوان. وما ألطف وقفته عند عنوان الكتاب؛ لأنه جزم بأنها تستوقف، قال «وفي اختياري لعنوان هذا الكتاب، وقعت في ما وقع فيه غيري من الحيرة والتردد بين عدد من الخيارات؛ فهذا عنوان جيد، ولكني مسبوق إليه، وذلك مناسب، ولكنه طويل، وآخر جميل، لكنه غير دالٍّ مباشرة على المضمون، ويأبى التخصص إلا أن يطل بعنقه، ويكون له تأثيره في الاختيار، فاستقر الأمر على هذا العنوان: سبر القلم لخطوات القدم: شذرات عن أسرتي، ولمحات من سيرتي؛ لكونه كاشفًا عن المضمون، دالًّا على المحتوى، إضافة إلى تأثر العنوان بتلك الحقبة الزمنية التي كان العلماء فيها يحرصون على تحسين عناوين مؤلفاتهم بالصبغة البديعية!! التي أمضيت دهرًا في صحبتها!!».
جاء هذا الكتاب في (414) صفحة، وطبع في الرياض طبعته الأولى في 1446ه/2024م، وقسم إلى عدد من الأقسام وميّز مخرجه الماهر بين هذه الأقسام بلون ترويستيه العليا وتعقيبته السفلى، وكانت الصور في الغالب واضحة مؤدية غرضها، والكتاب سجل ضخم جمع فأوعى، وناله من تنظيم المؤلف ما ينم عن قدرته الإدارية والتنظيمية والتوثيقية المدهشة، ولعل كثرة عمله في الإدارة وتنوعها أسعدته على ذلك. كتاب صامل كما أنَّ مؤلّفَه هو (الصامل).
قال الأزهري في (تهذيب اللغة، 12/ 140) «قَالَ اللَّيْث: صَمَل الشيءُ يَصمُل صُمُولًا: إِذا صلُب واشتدّ واكتنَز. يُوصف بِهِ الْجَبَل والجمَل وَالرجل». وقال العبودي «و(الصامل) من الحطب هو الجزل اليابس منه، وكذلك من العشب ونحوه هو اليابس منه؛ لأن الأخضر ينكمش وينقص حجمه عندما ييبس. وفلان رجل (صامل)، أي: جيّد حازم يمكن الاعتماد عليه». وأستاذنا كذلك رجل صامل اعتُمد عليه منذ كان طالبًا، جمع بين العلم والعمل، وكُلّف الدورات والإدارات والتعليم، وسافر لتحقيق هذا الغرض في آفاق الأرض، كل ذلك وصفَه في كتابه.
تحدث عن المحتوى فقال «وتضمّن الكتاب في البدء حديثًا عن أسرتي وأصولها، وتنقل أفرادها، ونشأتي وتعليمي، وألحقت بهذا فصلًا عن مصاهرات أسرتي، ثم عملي بين الإعادة والعمادة، فالمؤلفات العلمية التي أكرمني الله بإنجازها، والإشراف على الرسائل العلمية، ومناقشاتها، ثم اللقاءات والدوريات، تلا ذلك الحديث عن مواقفي مع الشخصيات التي تعاملت معها مباشرة، ثم تواصلي الجماعي والفردي. بعد ذلك جاء حديثي عن تقاعدي وأشتات من الذكريات، وختمت بما أكرمني به الله من تقدير أحبابي وتكريمهم لي، ومشاعرهم تجاهي. وقد أدرجت صور بعض الوثائق التي فيها معلومات مهمة عن الأسرة، أو أنها تستجلب مزيدًا من الذكريات؛ ليقف من يقرأ الكتاب على عينات من النماذج المختلفة».
تقرأ في الكتاب الميّال إلى التقرير مواقف طريفة، من ذلك ما جرى في أحد المطارات قال «ولما دخل الوقت رفع صاحبنا الأذان بصوت مرتفع قليلًا، وإذا بعدد من رجال الأمن في المطار يأتون مسرعين، فقلت مباشرة يا فلان اخفض صوتك، وما أن أتم الأذان حتى طلبت منه الإقامة مباشرة، فصلينا المغرب والعشاء، وبعد السلام قمت للذهاب لأخذ بطاقات الصعود؛ لأن التذاكر معي، فأنا من يتولى المتابعة، وحين اتجهت للموظف المسؤول عن بطاقات الصعود، فوجئت بموظف أمن طويل عريض ينظر إليَّ بشزر. ويطلب جواز سفري». وأُخذ للتحقيق وعزّ التفاهم والشرح والاعتذار لتعطل أسباب اللغة حتى منّ الله عليه بعربي يتحدث الفرنسية فخاطبهم فعفَوا، وكان ذا وجاهة عند القوم. ومن تلك المواقف ما جاء في حديثه عن زميله أستاذنا الأستاذ الدكتور إبراهيم الجوير ذي البديهة والطرافة العتيدة، قال «ومن مواقفه الطريفة الكثيرة التي أعتز بها، أني كنت في اجتماع بيت المناسبات في الجامعة، وكنت وقتها عميدًا لكلية اللغة العربية، ويحضر الآن زميلي عميد كلية العلوم الاجتماعية، وكان الأستاذ الدكتور إبراهيم الجوير عضوًا في الاجتماع، وهو من منسوبي كلية العلوم الاجتماعية. فطلب منه أحد الحضور الجلوس بجوار عميد كليته، فعلق بدعابته المشهورة: سأجلس بجوار عميدي الحقيقي -يقصدني- مشيرًا بذلك إلى أنَّه من خريجي قسم اللغة العربية التي تعتز به وبأمثاله، رفع الله قدره في الدارين!!». وأمّا زميله أستاذنا الدكتور إبراهيم أبوعباة فعلى الرغم من حزمه لم يخلُ من ميل إلى المزاح والطرافة، ويذكر من ذلك موقفًا قال « كنت في سفر معه. فأخبرني أنَّه على موعد مع أحد أصحابه، ولديه مشروع خطبة لزوجة تكون ثالثة!! فحاولت أن أثنيه عن هذه الفكرة؛ لكنه أصرّ، وأصرّ كذلك على أن أكون معه في زيارته تلك، فوافقته على مضض، فلم أكن مقتنعًا بذلك!! فاستقبلَنا صاحبه أحسن استقبال، وبدأ الموضوع بطلب الرؤية!! فاستأذنني الدكتور إبراهيم في الذهاب مع صاحبه لكي يرى، وبقيت أنا في المجلس لوحدي، وبعد قرابة نصف ساعة أو أقل بقليل عاد مع صاحبه، وسمعت عبارات: مناسبة، وعلى بركة الله والمهم توثيق العقد، وضمان حقوق الطرفين، وما إلى ذلك من العبارات المحتملة، والتي تَبَيَّن لي فيما بعد أن الحديث كله عن عمارة سكنية كان صاحبه يرغب في شرائها، ويستشيره فيها!! وقد أوهمني أن الموضوع خِطبة وزواج!!» وأما حكاية (القلقليس) فأطرف حكية، قال «كنا في شهر رمضان المبارك نفطر مع وفد من الزملاء الأفارقة، وكان منهم الدكتور أمين الدين أبو بكر، من نيجيريا -رحمه الله-، وهو يحب أبا محمد حبًّا جمًّا، وكان يراقب كل تصرفاته إعجابًا به، فلحظ الدكتور أمين الدين أن كأس الماء الذي أمام الدكتور إبراهيم، ويشرب منه لونه مختلف عن البقية، فسأله ما هذا الذي تشربه بعد الإفطار مباشرة؟ فقال الدكتور إبراهيم هذا شراب خاص يبعث على النشاط! أتريد منه؟ فقال الدكتور أمين الدين: نعم، فأعطاه، ثم سأله عنه بعد صلاة المغرب: ما رأيك فيه؟! فأجاب الدكتور أمين الدين: إنه حقًّا يبعث على النشاط!! فما اسمه؟ قال إبراهيم: هذا يسمى «القلقليس» (اسم اخترعه د. إبراهيم من عنده)، فصار الدكتور أمين يطالب الدكتور إبراهيم بالقلقليس، والحقيقة أن الدكتور إبراهيم لا يشرب الماء البارد جدًّا، فحين قُدِّم له الكأس باردًا سكب عليه فنجال القهوة، فتغير لون الماء!! فكانت تلك المداعبة».
هذا ما منّ به الرحمن من تعريف كتاب السبر، وهو بالسبر جدير.