أ.د. محمد خير محمود البقاعي
لقد ترجم روسو الابن كتاب «كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب» ونشره كما ذكرنا في الكتاب الذي سبق ذكره، ويبدو من كل ما نقله ورسمه ودرسه المبعوثون والرحالة والقناصل في المنطقة كلها أن الدولة الفرنسية كانت تولي اهتماما كبيرا للأوضاع العسكرية والدينية وللعادات والتقاليد في العالم الإسلامي عموما، وفي الجزيرة العربية على وجه الخصوص.
أما البريطانيون ومصالحهم في طريق الهند وحرصهم على جمع المعلومات عن الدولة السعودية الأولى فقد وصل إلينا منها أول رحلة قام بها بريطاني لما بدأت الدولة السعودية الأولى تتوسع في الجزيرة العربية، وذاع صيتها في الداخل والخارج، وكان للقوى الأجنبية المحيطة بالجزيرة العربية مصالح تجارية في الخليج، إبان احتلالهم لتلك الأماكن، ومن تلك القوى بريطانيا، التي كانت تملك شركة الهند الشرقية، التي كان مقرها في البصرة في العراق، ثم انتقلت إلى الكويت بسبب الأحوال غير المستقرة في العراق، فنقل مقرها من البصرة في سنة 1793م إلى الكويت، وبقي في الكويت حتى شهر أغسطس 1795م.
كل هذا وغيره من تقارير الأوروبيين عموما والتنافس الفرنسي الأوروبي والمشاركة الأوروبية في جمع المعلومات عن الدولة السعودية الأولى: عسكرية كانت تلك المعلومات، أم دينية، أم اجتماعية، أم اقتصادية.
وفي تغريدة على منصة X ، مفيدة كل الفائدة في هذا السياق أورد الدكتور المؤرخ والباحث الرصين عبد الحكيم بن عبد الرحمن العواد: «رسالة (أصلية) كتبها صمويل مانيستي؛ المقيم البريطاني في البصرة، إلى الماركيز آرثر ويليزلي؛ الحاكم العام للبنغال، مؤرخة في 30 أكتوبر 1803م الموافق 17/7/1218ھ.
وتذكر الرسالة أن مندوب البريد البريطاني الذي أرسله مانيستي من البصرة إلى حلب، قد تعرض للنهب وهو في الطريق إلى حلب، من قبل أفراد من قبيلة شمر!
ويضيف أن شمر أرسلوا البريد الذي استولوا عليه إلى الشيخ الوهابي عبد العزيز بن محمد؛ ويصف مانيستي جهوده لاستعادة البريد الذي تم الاستيلاء عليه.
والواضح من تاريخ الرسالة أن الحادثة قد وقعت قبل أيام من اغتيال الإمام عبد العزيز بن محمد، حينما كان الدرويش الكردي قد أمضى أشهرا يظهر التنسك في الدرعية، فيما هو يسقي خنجره بالسم؛ استعدادا لساعة الصفر التي طعن فيها الإمام.
فهل توجد علاقة بين الحادثة أعلاه وبدء تنفيذ الاغتيال، أم أنها مصادفة!؟
وشمر العراق والشام وقت الهجوم على البريد الانجليزي كان يرأسها الشيخ فارس بن محمد (الحميدي) الجربا، الذي غادر شمال نجد بعد معركة العدوة؛ لأنه لم يكن على وفاق مع الدولة السعودية الأولى.
لكن الوثيقة البريطانية تثبت خلاف ذلك، وأن الولاء ما يزال قائما بين شمر - أو جزء منها - والدرعية، رغم مغادرتها نجدا، وبعد المسافة عنها!
فهل كان الولاء مناكفة للبريطانيين، أم مساومة لوالي بغداد، أم أنه حقيقي؛ كما هو الأمر مع شقيقتها قبيلة عنزة.
كما تثبت الوثيقة دقة ابن بشر؛ حينما حدد مقتل الإمام عبد العزيز في العشر الأواخر من رجب.
يشار إلى أن الماركيز ويليزلي استطاع قيادة جيوش الحلفاء لهزيمة نابليون في معركة واترلو عام 1815م، ويعد من أعظم القادة الغربيين في التاريخ؛ حيث شارك في نحو 60 معركة، وما تزال خططه الحربية تدرس في الأكاديميات العسكرية، في مختلف أنحاء العالم».
كل ذلك كان كما أجزم بين يدي وتحت نظر جوزيف فيسيير وأقرانه من الأوروبيين عندما خططوا في الحملة الخامسة للهجوم على الدرعية مستفيدين من الخرائط والكتب وتقارير القناصل وكل ما حصله الدبلوماسيون من معلومات.
ومن أسماء المرتزقة الذين استطعت العثور عليها:
-جوزيف سيفيس (Joseph Séves) خبير المدفعية والتنظيم العسكري
- المهندس كليمان أفيد بيك (Clément Avid) مخطط الحصار والهجمات الهندسية
- بيير بويي (Pierre Boyer)خبير في تنظيم الجيش وتأهيله على النهج الأوروبي.
- رينيه بورو (René Bureaux)مسؤول الإمداد اللوجستي والتدريب، وضباط آخرون من إيطاليا ودول أوروبية أخرى.
وهناك خبر نقف عنده لإثبات ما نقول عن الوجود الأوروبي في الحملة الخامسة؛ ذلك أن الإنجليز كانوا كعادتهم منتظرين مراقبين ما ستفضي إليه المواجهات، ولما سقطت الدرعية لم يتأخروا عن إرسال ممثلهم في الخليج الكابتن جورج فورستر سادلير، (1789-1859) (Sadleir, George Forste) – في رحلته من القطيف إلى ينبع عام 1234 هـ/1819م: لتهنئة إبراهيم باشا.
ولمن أراد الاطلاع على مراحل التنافس البريطاني الفرنسي في الجزيرة العربية نذكر هنا كتاب: «موقف بريطانيا من النشاط الفرنسي في الخليج العربي 1798-1810م «تأليف د/صالح محمد العابد 1978-1979م.
إذن، إنها الحملة على الدولة الأقوى والأكثر رسوخا وعقيدة واستقلالا وأمنا وأماناً في وجدان شعب الجزيرة العربية. كان الغطاء العثماني لا يور ث دفئا، ولم يحقق نصرا ، ولم يلق قبولا لا دينيا ولا اجتماعيا، فلم يكن أمام طموحات محمد علي إلا اللجوء إلى خطط المرتزقة الذين حققوا له نصرا أفضى إلى التخريب والقتل، ولعل نبوءة مانجان كانت أجمل تعبير عن منجز الحملة؛ « لقد سقطت هذه الدولة، ولكنها ستعود أقوى مما كانت عليه».
ويأتيك بعد كل ما ذكرناه من ينسب الأمر إلى العثمانيين عبر والي مصر وابنه، وينكر دور المرتزقة الأوروبيين بقيادة فرنسية في التهيئة للحرب بالوكالة.
لقد كتب المؤرخ الفرنسي الكبير إدوارد دريو Edouard DRIAULT (1864-1947م) أستاذ التاريخ، ومؤسس مجلة «الدراسات النابليونية» 1912م.
professeur d»histoire. Fondateur de la «Revue des études napoléoniennes 1912
في كتابه: »سياسة نابليون الشرقية: سيباستياني وغاردان «1806-1809م»، لدى الناشر فيلكس ألكان، 1904م.
= La politique orientale de Napoléon: Sébastiani et Gardane, 1806-1809 Félix Alcan, 1904.
عن جوزيف فيسيير ودوره في الحملة الخامسة، وينبغي في هذا السياق التمييز بين الكوماندان جوزيف فيسيير VAISSIERE Joseph 1736- 1837م، وهو الذي كان الركن الأساس في الحملة على نجد، وبين الضابط ألكسندر فايسيير Alexandre VAYSSIERE 1817-1861م، صاحب الرحلة من السودان إلى مصر التي قدم لها المَعلمة الفرنسية ألكسندر دوما. وأوفى معلومات عن الرجلين ومسيرتهما في الحرب والرحلة مما لم يسبق ترجمته ما زودني بصورة عنه الباحث الطلعة سعود العبد اللطيف؛ وهو تقرير نشره المستشرق الفرنسي Guémard, Gabriel (1937-1878م) جبريل غيمار( جومار) الذي توفي في القاهرة. والتقرير بعنوان: من بلاد العرب إلى النيلين (يقصد مصر والسودان) 1816-1836م وتحدث فيه عن الشخصيتين، ويعد أشمل ما كتب عنهما بعنوان:
DE L” ARABIE AUX DEUX NILS. Le Commandant VAISSIERE (1816-1835)
et l»Adjudant-Major VAYSSIERE (1845-1880 REVUE DE L’HISTOIRE DES COLONIES FRANCAISES Tome XXII 1929. PP 147-171.
ويعد هذا التقرير هو الأوفى عن الشخصيتين. أما ترجمة العنوان فهي: «من بلاد العرب إلى النيلين» (يقصد مصر والسودان) 1816-1836م. الكوماندان فيسيير (1816- 1835) الضابط فايسيير (1845-1880م) مجلة تاريخ المستعمرات الفرنسية، مج 22، 1929م، ص 147-171.
ونشر الأديب والمؤرخ الفرنسي الكبير ألكسندر دوما Alexandre Dumas 1870- 1802 كتاب الضابط ألكسندر فايسيير 1845- 1880م وعنوانه: «رحلة إلى مصر والسودان». ونشر الدكتور المؤرخ لويس بلان مقدمة ألكسندر دوما للرحلة وعلق عليها في كتابه الذي صدر بالفرنسية منذ بعض الوقت بعنوان
ALEXANDRE DUMAS Récits d’Arabie
ألكسندر دوما، سرديات بلاد العرب Louis BlinRécits présentés et annotés par
سرديات قدمها وعلق عليها لويس بلان دار نشر L’Harmattan لامارتان، باريس 2022م، في سلسلة عن علاقة كبار الأدباء والسياسيين والمثقفين والفلاسفة الفرنسيين بالإسلام بعيدا عن المبالغات والمختلقات.
لقد فشلت الحملتان العسكريتان اللتان أمر بتجهيزهما سليمان باشا بغداد الخاضع للنفوذ العثماني (حملة ثويني وحملة علي كيخيا)، ثم أوعز العثمانيون إلى والي دمشق العثماني (عبد الله باشا) بتجهيز حملة فلم يحرك ساكنا، ثم فشلت حملة طوسون باشا ابن محمد علي في مواجهة التمكن السعودي قادة وشعبا لأنهم قيادة وشعبا دافعوا عن بلادهم واستقلالها. ولما اشتد، بعد ما كان من فشل، ضغط الأوروبيين على العثمانيين أوعز هؤلاء إلى محمد علي الذي ولوه مصر بمباركة الفرنسيين والأوروبيين. وكان متعطشا للسلطة والسيطرة على الموارد المالية والبشرية والدينية للجزيرة العربية، ووجد أن جيشه الذي فشل مع طوسون لن يستطيع إنجاز ما تطلبه الدولة العثمانية بضغط من الأوروبيين لجأ كما هو الحال في كل شؤون مصر حينذاك إلى استشارة فرنسا القريبة منه في كل شؤونه فأرسلت إليه مستشارين وعسكريين، وكانت مصر في عهده تعج بالمغامرين والعلماء الفرنسيين والأوروبيين الذين تركوا لنا ببليوغرافيا ثرية ومفصلة دالة كل الدلالة على ما نقول. ولنا لقاء.