د. شاهر النهاري
لعل من الماضي ما يدهش وتقف النفس والعين حياله باحترام، حتى ولو كان صور رحيل الأحبة في عالم حياة الجبال، حيث كان من الصعب حفر اللحد بالسرعة المطلوبة في عدم وجود الآلات الحديثة، وكان من البعد حضور مراسم الدفن وإكرامه، بتعطيل شدة البرد والمطر مرات، وكلما غصنا في خصوصيات الزمن الجنوبي القديم، وجدنا التواد في ذلك النسيج الاجتماعي، الذي لو انقطع خيط منه، تلاقت الأيدي تتبارى في حياكة أطرافه، وترميم خلله.
ورغم كل ذلك فكبار السن المخضرمين يحنون إلى طباع وطقوس كثيرة، سواء في ولادة طفل، أو إكمال نصف دينه، أو رحيل مسن عن الدنيا، بمجريات مدادها من السُنة الشريفة، وبما تمتلك من الخصوصية الجبلية، ومن أفواههم نستذكر جماليات وروابط وعواطف ما كان يجري عند كل عزاء في قرية جنوبية متعلقة فوق قمم الجبال، أو في بلدة متألفة بالضواحي، حيث يشيع الخبر شفوياً قبل وجود الصحف، وأدوات التواصل، وكيف كان المعزين ينظمون مشاركاتهم، ويحضرون صفوفاً ينشرون الود ويؤكدون المشاركة والاهتمام.
وفي الطفولة كانت تشدنا مثل تلك الأحداث، وحكاياتها وطقوسها المصاحبة، والتي تعبر بنا قناطر خوف طفولتنا من الموت والدفن والفقد، وتتمثل بالاستعدادات للمعزين، وتقدير حضورهم بعدد ترحاب الخطوات التي مشوها حرفياً، قبل توفر السيارات، في استنفار يقوم به كامل مكان العزاء وأهله من تجهيز الطعام من الصباح الباكر، ثم الضحية، ووجبات الظهر والمغرب بجهود جارات أهل الميت، لإكرام من يلفون من كل صوب وفج.
نظام اجتماعي تعاوني دقيق، فتحضر الصفوف منتظمة يتوسط كل صف منها كبار قومهم، ويتدرج البقية على الجانبين لا يتقدم فيها سن على سن، في مظاهر احترام وتعاطف، لا تصوير فيه ولا نقل مواقع تواصل.
صفوف المعزين لها من يتصدرها للتعريف عن أصحاب كل صف، ومن يلقي كلمة التعزية نيابة عنهم، وهنا لا يشترط كبر السن، ولا المكانة المجتمعية، بقدر ما يهم حضور المتحدث وعلو صوته، ورخامته، والفصاحة وقدر التعليم، وقوة الحافظة، وسرعة البديهة، ليلقي على أهل الميت خطاباً عفوياً، ينوه بالميت وشمائله وأهل الميت ومكانتهم، ويكيل لهم من مشاعر التعزية الكثير، ومن الدعوات للميت بالرحمة، بكلمات مأخوذة من السنة النبوية ومطرزة بالحِكم والأشعار، وبما يجعلها شبه حلية من الحجارة الكريمة يقل من يُحسن مثلها، ما يزيد مشاعر المواساة وجبر الخواطر عند أهل الميت ومحبيه، ثم يختمها بدعاء لهم بالصبر والسلوان، وأن يعوّضهم الله في فقيدهم، ناشراً روح التراحم والسكينة في قلوب الحاضرين.
من يتم اختياره خطيباً قد يكون من صغار شبابهم، في حال كونه مبدعاً في الظهور، وتلك عادة ثقة يتم زرعها في عقول الشباب منذ طفولتهم، ليتمرسوا على الشجاعة والكرم ومقابلة الضيوف، وإجادة كلمات الترحيب والوداع في مختلف مناسبات المجتمع، وبما يفوق كل ظهور حالي، قابل للشطب واللصق والتعديل على شاشات مواقع التواصل.
ما يقال من قبل المعزين يقابل من جانب أهل الميت بالمثل في الترحيب بالمعزين، ومن قبل كبار السن أو المتحدث باسم أهل الميت، إذناً بدخول الصف إلى منزل الفقيد، أو مكان التجمع بترتيب اجتماعي يراعي الأعمار، ويتم بعده مصافحة الجميع، مع التوقف أكثر عند أقرب أهل الراحل، واحتضانهم، وتبادل مشاعر المواساة والحزن، والإشادة بالميت في أدواره وعلومه وأخلاقه، وما اشتهر به من حسن خلق وعشرة.
المجالس حينها لم تكن فسيحة تتسع لجميع القادمين، لذلك فالطباع تظهر بسرعة العزاء، والمغادرة قبل وصول الصف اللاحق، من صفوف كانت تنتظر خارج بيت العزاء، حتى خروج من وصلوا أولاً.
والوجبات هنا تقدم للقادمين من مسافات بعيدة، البر والسمن والعسل صبحا وفي الضحية، كما يتم تقديم الوجبات والذبائح في أوقات الظهر والمغرب، وكل ذلك لعدم وجود المطاعم، فتقوم نساء المجتمع بالتفاني لإكرام المعزين العانين.
المعزيات يكون لهن أمكنة مختلفة، وتقوم نساء القرية بنفس ما يتم عند الرجال، وكل ذلك ضمن تنسيق، وشعور الجميع بأنهم أهل للميت، ومرحبين يكرمون وفادة المعزين.
المجاملات وحسن العشرة كانت تجعل كبير كل قرية بعد وصول خبر الوفاة، يطلب من يرافقونه للعزاء، فيكونون حاضرين لا يتوانون، جاهزين بهندامهم يركب الكبار مطاياهم المختلفة، ويباريهم الشباب على الأقدام.
المجاملات الإنسانية مراسم تهم الجميع، ولذلك يحضر للعزاء وفود من أغلب القبائل، وكل قبيلة تباهي بتعدادها، وبأنها لم تفرط في الحضور بكامل رجالاتها، تبجيلاً لقيمة الميت وأهله.
البيوت القريبة من أهل الميت يتم تجهيزها، وفتح مجالسها، لتستقبل العانين من أمكنة بعيدة، وسط زحام القدوم، ورغبة في إعطاء المعزين فرصا للراحة، وتناول المشروبات والمأكولات، والتنسم من عناء المشوار، وربما تفرغ لهم بعض غرف الجيرة أو باحة المسجد للراحة والقيلولة، حيث يقوم على خدمتهم شباب من أهل البيوت، وبكل سع ة وترحاب، وكرم.
وبعد انقضاء أيام العزاء، تعود حكايات ما حصل في العزاء تسامر ليالي أهل الميت وتواسيهم، ويتم الإشادة بأفضل صف حضر، وبأجمل الكلمات الفصيحة، التي ألقاها خطباء الجموع، وخصوصاً لو كانوا شباباً يافعين، تغبطهم الأعين، وتدعي لهم بمزيد من الحضور والإبداع.
وفي حال كان أهل الميت صغار، أو أيتام، أو قليلي الدخل، فالقرية كلها تصبح واجهتهم، وتقوم بمراسم وتكاليف العزاء كاملة عنهم، كالبنيان المرصوص، يجزلون ويظهرون، ويدعمون، ويجبرون الكسور والعثرات، ويحتضنون الصغار، ويعتنون بالثكالى، ولذلك يظل العزاء الجنوبي مرسوما في الذاكرة بحروف محبة وتكافل ومشاركة لا تنسى.