عبدالعزيز بن حمد القاضي
الشاعر عبدالله العلي ابن دويرج (ت 1354هـ) رحمه الله شاعرٌ موهوب، ذو قريحةٍ شعريَّةٍ قويَّةٍ أَصِيِلَة. وسبق أن تحدثنا في موضوع سابق عن ريادته في (الطروق العسيرة) وأشرنا إلى أنه رائد الشعراء وأوَّلُهم - بلا منازع - في (ابتكار الأوزان والألحان الطويلة العَسِيرَةِ وغَيْرِ العَسِيرَة)(1) التي لم يُنظَمْ عليها من قبل.
كما أنَّهُ يملِكُ قُدْرَةً لافِتَةً، وإجادةً فريدَةً في إنشاءِ الحِوَاراتِ وإِدَارَتِهَا، وقد اخْتَرَعَ شَخْصِيَّةً وَهمْيِّةً هي شخصِيَّةُ (الغُرْمُولِ)؛ ليُجْرِيَ معها حِوَاراتٍ شِعْرِيَّة، و(الغُرْمُول) في كلامهم: الرَّمْلُ السَّافِي المُجْتَمِعُ المُنهال الذي لا يُنْبِت. (انظر: كلمات قضت (غ ر م ل) ص886-2). وقد سَجَّلَ الرَّاويةُ الشاعر عبدالرحمن الربيعي رحمه الله (ت 1402هـ)، وهو المرجع الأول الذي انفرد بجمع معظم شعر ابن دويرج ومُعظَمِ شِعْرِ ابن شريم، فضلًا عن شعراء عنيزة السابقين وغيرهم، سجَّل ستَّ محاوراتٍ جرت بين ابن دويرج والغرمول، وهو مَصْدَرُ كُلِّ ما نُشِرَ من تلك المحاورات.
وكان مُعْظَمُ من قرَأُوا تلك المُساجلاتِ حتى وقتٍ قريبٍ يظنُّونَ أنَّ الغُرمُولَ شَاعِرٌ له وُجُودٌ حقيقي. جاء في مجموع (أول خلطة من شعر القلطة ص14) المطبوع سنة 1380هـ ما نصُّه: «مساجلة بين ابن دويرج وشاعر يُدعى الغُرْمُول ولعَلَّه من قبيلة مطير». ولَعَلَّ هذا ما كان رَائِجًا حَوْلَ شَخْصِيَّةِ الغُرْمُولِ في تلك الفَتْرَة. وذَكَرَ أَصْدِقَاءُ ابن دويرج ومُخَالِطُوهُ وعارِفُوه، ومِنْهُم الشّاعِرُ عبدالله ابن حسن المُلقَّب (الخال) رحمه الله (ت 1407هـ)، والرّاوِيَةُ محمد العُمَرِي رحمه الله (ت 1406هـ)، أنَّ الغُرْمُولَ (شَخْصِيَّةٌ وَهْمِيَّة)، وقال أبو عبدالرحمن ابن عقيل في تقديمه لديوان عبدالله ابن دويرج الذي نشره بندر الدوخي(2): «وقد أعْلَنَ الشيخُ سعد بن جنيدل(3) أنَّ الغُرْمُولَ (شخصيَّةٌ وَهْمِيَّةٌ) اخْتَرَعَهَا ابن دويرج، فكان يقول الشعر وَيَنْحَلُهُ الغُرْمُولَ الوَهْمِيّ، ورَوَى ابن جنيدل ذلك عن عبدالرحمن الربيعي». وقال بندر الدوخي(4): «ذكر محمد العُمَرِيّ رحمة الله عليه، وكان ممن عاصر ابن دويرج ودوّن له، أن الغُرمول (شَخْصِيَّةٌ وَهْمِيَّة)، وهي عبارة عن (إِبْرِيق شَاي) كانَ يَنْصِبُهُ ابن دويرج تَحْتَ الجَبَلِ خارِجَ مَدِينَةِ عُنَيْزَةَ ويُدِيرُ مَعَهُ مُساجلاتِهِ الشِّعْرِيَّةَ الشَّهِيرَة. وأكَّدَ هذا الشَّيْخُ ابن جنيدل في مُحَاضَرَتِهِ القَيِّمَةِ عن ابن دويرج، مُسْتَنِدًا إلى أقوال بعض مُعاصري(5) ابن دويرج من أنه لا يُوجَدُ شَاعِرٌ باسْمِ (الغُرْمُول)، ولو كان هذا الغُرْمُولُ مَوْجُودًا وبهذِهِ الشَّاعِرِيَّةِ التي في مُسَاجَلَاتِهِ مع ابن دويرج، لعُرِفَ كما عُرِفَ ابن دويرج بين مُعاصِرِيه. ولا شَكَّ أنَّ التَّقَارُبَ في اللُّغَةِ والمَضْمُونِ بَيْنَ شِعْرِ ابن دويرج وشِعْرِ الغُرْمُولِ في مُحاورَاتِهِما الشَّهِيرَةِ لا يُبعِدُنا كثيرًا عمَّا ذهب إليه كُلٌّ من العُمَريّ والجنيدل من أنَّ المُحَاوَرَاتِ لِشَاعِرٍ واحِدٍ وليست لشاعِرَيْن» ا.هـ.
قلت: أوْرَدَ الرِّبِيعِي مساجلات ابن دويرج مع الغرمول في (مج10 ص99) وفي (مج13 ص16)، من مخطوطاته(6)، وصَدَّرَها في (مج13) بعبارة:
«اِمْرادّ بين عبدالله ابن دويرج وعقاب بن غرمول العتيبي» [انظر الوثيقة رقم(1)]
أمَّا (مج10)، فجاء ما كتَبَهُ فيها في تصدير هذه المُساجلاتِ، غَيْرَ وَاضِحٍ بِسَبَبِ ذهاب حروفِهِ مع تَمَزُّقِ أعلى الورقة، حيث لم يبقَ منه سوى أطراف الحروف السفلى. [انظر الوثيقة رقم (2)]
وكان ابن دويرج قد أورد بعض الإشارات الصريحة حول شخصية مُساجِلِهِ (الغرمول)، سيأتي بيانُها بعد قليل، وقد صرَّح في إحدى المحاورات بأنه من (الحجاز)، قال في المساجلة الخامسة بينهما واسَمًا فيها للغرمول:
سَلَامِ حِيِّيتِ يامِنْ هُو مِجَاوِرَ الحَرَمْ
رِدِّيِّةٍ مِنْ ضِمِيرِي عِدِّ مَا نَاحَ الحَمَامْ
فهو (مجاورٌ للحرم) وعرض عليه فيها أن ينتقل إلى عنيزة، لكنه اعتذر، وحول العرض والاعتذار دارت المُحاورة. وفيها خاطبه مرتين بعبارة (يا حجازي)، وقد حذفها الدوخي ووضع مكانها نُقَطًا ظنًّا منه أنَّها شَتِيمَةٌ عُنصريَّة!
والرِّبِيعِي أعلمُ بشِعْرِ ابن دويرج من غيرِهِ، وهو قبل هذا كُلِّهِ شَاعِرٌ ورَاويَةٌ مَعْنِيٌّ بالشِّعْرِ والشُّعَرَاء، ومُهْتَمٌّ بالتَّوْثِيق. وكان ينقُل عن ابن دويرج مُباشرة ومُشَافَهَةً؛ لأنه كان صديقًا له، وبَيْنَهُمَا مُسَاجَلَاتٌ وحِوَارَاتٌ شِعْرِيَّة مُدوّنةٌ في ديوان ابن دويرج. ومن كانت علاقَتُهُ بابن دويرج بِهَذِه الصُّورة فلا بُدَّ أنَّهُ يَعْرِفُ جَيِّدًا مُنَاسَباتِ ومُلابَسَاتِ بَعْضِ قصائدِهِ التي أَخَذَهَا مِنْهَ، ومنها حقيقةُ شَخْصِيَّةِ (الغُرْمُول).
وتَقْدِيمُهُ لهذه المُسَاجَلَاتِ بِهَذِهِ العِبَارَةِ التي يذكرُ فيها اسْمَ الغُرْمُولِ ثُلاثِيًّا، لا يُنافي ما رُويَ عنه من أنَّه قال عن الغرمول إنه (شخصية وهمية)، فالاسم خاصٌّ بهذه الشخصية الوهمية، وهو ليس من اختراعه بل من اختراع ابن دويرج، واستنبطه الربيعي من محتوى تلك المحاورات، فـ(عقاب) و(الغرمول) وَرَدَا في الحِوَارِ التاَّلِي في المُسَاجَلَةِ الثَّالِثَةِ التي جَرَتْ بينهما:
قال ابن دويرج:
أَظِنِّ يا (عْقَابِ) ما يَطْمَعْ بِحَرْبِي مِنْ خَبَرْنِي
غِبَّةْ بَحَرْ حَايِرَهْ مَا كِلِّ مِنْ جَاهَا عَبَرْهَا
فردَّ عليه الغرمول بقوله:
واللهْ لَأخَاطِرْ عَلَيْهَا فِإنْ غَدَيْتَ اللهْ عَذَرْنِي
كِلِّشْ وَلَا قَوْلِةَ (الغُرْمُولِ) جَنِّبْ عَنْ خَطَرْهَا
أما نِسْبَتُهُ إلى (عُتَيْبَةَ) فلأنَّ ابن دويرج قال له في المُسَاجَلَةِ الخَامِسَةِ أَيْضًا:
دَيْدَ الطِّمَعْ يَبْسِ وَاللِّي يَرْضِعُهْ عَنْهِ انْفِطَمْ
اِلْبَسْ مَعَمِّكْ وِهَاجِرْ يَمَّ أهَلْ دِيرَةْ سَنَامْ
فَذَكَرَ (المَعَمَّ) وهو العِمَامَةُ البَيْضَاءُ التي كانت شِعَارًا لـ(إخوان من طاع الله)، وطلب منه أنْ يَرْتَحِلَ إلى (سَنَامْ) وهي إحدى هِجَرِ الإخوان، وتقع قُرب القويعية، أسسها سلطان بن مشعان أبا العلا سنة 1332هـ، وسُكَّانُهَا هم العْصُمُة من بَرْقَا من (عْتَيْبِة).
ونظن أن الرِّبِيعِي لم يشأ أن يَذْكُرَ في التقديم لتلك المحاورات أن الغرمول (شَخْصِيَّةٌ وَهْمِيَّة) لسببين: الأول أنَّ ابن دويرج لم يذكر شيئًا عن شخصية الغرمول، فلم يرغب الربيعي في مخالفته. والثاني أن الإفصَاحَ عن هذا يُفسِدُ (الغَايَةَ الأَدَبِيَّةَ) لتلك المُساجلات، ويُبطِلُ سِحْرَها. نقُولُ هذا على سَبِيلِ التَّخْمِينِ؛ لأنَّنا لا نَجِدُ تفسيرًا مُقْنِعًا لذِكْرِ الربيعي اسْمِ (الغُرمُول) ثُّلَاثيًّا مع تصريحِهِ - فيما بَعْدُ - لِبَعْضِ النقَلَةِ الثِّقاتِ بما يُناقِضُه.
ولا شك في أنَّ النُّصوَصَ المكتُوبةَ الصَّرِيحَةَ لا تُرَدُّ برِّوَاياتٍ شَّفَوِيَّةٍ ناطِقَةٍ بضدِّها، لكن يُستثنى من هذا النفي، الروَايَةُ المُتأخِّرَةُ المنقُولةُ عَنْ كَاتِبِ النَّصِّ نفسِهِ، بشَرْطِ أن يكونَ الناقلُ ثِقَةً، مَعْرُوفًا بالأمانة والضَّبْطِ وتَحَرِّي الدِّقَّة، وابن جنيدل رحمه الله هو الذي صرَّحَ بأَنَّهُ نقَلَ عن الرِّبيعي أن (الغُرْمُولَ شَخْصِيَّةٌ وَهْمِيَّة)، وهو لا خِلَافَ - فيما نَعْلَمُ - بين المُحَقِّقِينَ على عَدَالَتِهِ وضَبْطِهِ وأمانَتِهِ في النَّقْل. فكيف وقد تَوَاتَرَ ذِكْرُ وَهْمِيَّةِ الاسمِ بين عَدَدٍ من الرُّواةِ الثِّقاتِ مِمَّنْ خَالَطُوا ابن دويرج كابن حَسَنْ والعُمَرِي وغَيْرِهِمَا؟
لذا فإنَّنا نَكَادُ نجزمُ مع الجازِمِينَ أنَّ الغُرْمُولَ (شَخْصِيَّةٌ وَهْمِيَّةٌ)، ونَضُمُّ صَوْتَنَا إلى صَوْتِ الأستاذِ بندر الدوخي رحمه الله في قَوْلِهِ (ديوان عبدالله ابن دويرج ص48): «ولو كان هذا الغُرْمُولُ مَوْجُودًا وبهذه الشَّاعِرِيَّةِ التي في مُسَاجَلاتِهِ مع ابن دويرج، لعُرِفَ كما عُرِفَ ابن دويرج بَيْنَ مُعاصِرِيه».
ونَزِيدُ على هذا أنَّ من يَتَأَمَّلْ في (فَتْلِ الغُرْمُولِ ونَقْضِهِ) في هذه المُسَاجَلاتِ يُلاحِظْ فِيهِمَا أُسْلُوبَ ابن دويرج في (الألفاظِ والمَعَانِي والأساليب والأفكار) وغَيْرِها، ويُدركْ أنَّه كان يُحاوِرُ نفسَه. ويُلاحِظْ أيضًا أنَّ تلك المُساجلات لم تَكُنْ تَجْرِي على أُسْلُوبِ المُحَاوَرَةِ المُعْتَادِ، فـ(المعاني) فيها - على سبيل المثال - وطَرِيقَةُ مُعَالجَتِهَا عَبْرَ (الفَتْلِ والنَّقْضِ) لا يَخْفَى فِيهَا الِافْتِعَال، ومن ذلك أن ابن دويرج وَسَمَ في المحاورة السادسة بـ:
حَمَامِهْ رَاعِبِيِّهْ هَيِّضَتْنِي بَاللَّحَنْيَا
وَأنَا قِدْمَ الحَمَامِهْ مِسْتِرِيحَ البالِ وِمْرِيحْ
فردّ عليه الغُرمول بقوله:
تِذَكِّرْنِي زِمَانٍ فَاتِ لِي وَالقَلْبِ طَنْيَا
يِهِلَّ الدَّمْعِ مِنْ عَيْنِي كِمَا فَرْطَ المِسَابِيحْ
وهذا -فيما نرى- اسْتِهْلَالُ قَصِيدَةٍ لا اسْتِهْلَالُ مُحاورة، فبيت الغرمول إكمال لفكرة بيت ابن دويرج! وهذه المُحَاوَرَاتُ التي جَرَتْ بَيْنَهُمَا في عُنيزةَ من النَّوْعِ (المُجَالِسِي) ولَمْ تَكُنْ في حَلْبَةِ مُحَاوَرَة.
ثُمَّ مَنْ هَذَا الغُرْمُولُ الشَّاعِرُ الحِجَازِيُّ غيرُ المعرُوفِ في الحجازِ ولا في غيره، الذي يَأْتِي مِنْ مَكَّةَ المُكرَّمَةِ خِصِّيصًا لِيَزُورَ ابنَ دويرج وَحْدَه، فيُقابلَهُ ويُحاوِرَهُ بسِرِّيَّةٍ تامَّةٍ ثم يَذْهَبُ ويَخْتَفِي بسِرِّيَّةٍ أيضًا وكأنَّهُ جاء على بِسَاطِ الرِّيح؟ وابن دويرج لَيْسَ واسِعَ العَلَاقَاتِ مَعَ النَّاسِ والشُّعَرَاء، ولم تكن أوضاعُه الاقتصاديَّةُ والاجْتِمَاعِيَّةُ تُساعِدُهُ على اسْتِضَافَةِ النَّاس. فكَيْفَ عَرَفَ وَحْدَهُ هَذَا الغُرْمُولَ؟ وكيفَ لا يَعْرِفُهُ أَهْلُ عُنيزَةَ، ولا يَعْلَمُونَ بزِيَارَتِه؟ وهُم الذين لا تَخْفَى عَلَيهِمْ زِيَارَاتُ النَّابِهِينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ وغَيْرِهِمْ لمدينتهم، قِبْلَةِ الشُّعَرَاءِ فِي نَجْدٍ وغيرهِم في ذلك الزَّمَانِ؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن من يتأمَّلُ في أبياتِ ابن دويرج وأبياتِ الغرمول في تلك المساجلات يُدركُ للوهلة الأولى أنهما خرجتا من قريحةٍ واحدة لا من اثنتين، في (الألفاظ والمعاني والأساليب والأفكار)، وقد أشار أبو عبدالرحمن ابن عقيل إلى شَيْءٍ من تَشَابُهِ الأُسْلُوبِ هذا في تَقْدِيمِهِ (ديوانَ عبدالله ابن دويرج)، فقال (ص20): «ومن بَدِيعِ الدِّرَاسَاتِ في هذا المَجَالِ أَنْ يُسْتَخْرَجَ النَّمَطُ الواحِدُ في شِعْرِ ابن دويرج والغُرْمُولِ، الدَّالُّ على شَاعِرٍ وَاحِدْ، حيث لَهَجَ بعضُ المُتَأَدِّبِينَ بهَذِهِ الظَّاهِرَةِ النَّقْدِيَّةِ مُنْذُ أَعْلَنَ الشَّيْخُ الجنيدل وُجُودَهَا، ومُنْذُ أَعْلَنَ أنَّ الغُرْمُولَ شَخْصِيَّةٌ وَهْمِيَّةٌ، ومِنْ ذلك النَّمَطِ - على سَبِيلِ المِثَالِ - اسْتِخْرَاجُ لَهْجَةِ حَاضِرَةِ أَهْلِ السّرِّ من شِعْرِ الغُرْمُولِ الوَهْمِيّ، فإنْ لم يُوجَدْ هذا النَّمَطُ فيُكْتَفى بالنَّقْلِ التَّارِيخِي عن (الرِّبِيعي وابن حسن) أنَّ الغُرْمُولَ وهْمِيٌّ فَحَسْب، لأنَّ دَعْوَى النَّمَطِيَّةِ الوَاحِدَةِ تَعْنِي عَدَمَ قُدْرَةِ ابن دويرج على التَّعْمِيَة، إلا أن يقال: لَمْ يَقْصِدْ إِحْكَامَ التَّعْمِيَة. ومِنَ الإشَارَاتِ المُفِيدَةِ الدَّالَّةِ على صِحَّةِ دَعْوَى النَّمَطِ الواحِدِ أنَّ كلمةَ (بَلَشْتِي) غيرُ شائعةِ الاستعمالِ في كلامِ العَوَامّ، ولكنَّها نادِرَةٌ عند بَعْضِهِم، وقد تَكَرَّرَتْ كثيرًا في كلام ابن دويرج ثم وجدناها في قول الغرمول:
أنتِ مَالِيَّ الحِزَامِ مْدَمِّجَاتِ سْوَارِي
مِثْلِ مِنْ حَطَّ البَلَشْتِيِّهْ وَرَا دِنْدَارِهْ
وابن دويرج رحمه الله معتادٌ على اصْطِنَاعِ الحِوَارِ مَعَ أَطْرَاف، وهُو نَفْسُهُ مَجْمُوعُ تلك الأطراف، كحِوَارِهِ بَيْنَ الشَّايِ والقَهْوَة، وحِوَارِهِ للعَجُوز، وحِوَارِهِ للفَقْر..» انتهى كلامه. ومَرَّ بنا قبل قليل قول الأستاذ بندر الدوخي رحمه الله: «ولا شَكَّ أنَّ التَّقَارُبَ في اللُّغَةِ والمَضْمُونِ بَيْنَ شِعْرِ ابن دويرج وشِعْرِ الغُرْمُولِ في مُحاورَاتِهِما الشَّهِيرَةِ لا يُبعِدُنا كثيرًا عمَّا ذهب إليه كُلٌّ من العُمَريّ والجنيدل من أنَّ المُحَاوَرَاتِ لِشَاعِرٍ واحِدٍ وليست لشاعِرَيْن».
قلت: ونَزيِدُ على هذا أنَّ (لهجة السِّرّ) وما حوله، و(لهجة عالية نجد) و(لَهْجَةُ القَصِيم) وهي اللَّهَجَاتُ التي وَسَمَتْ شِعْرَ ابن دويرج، والأخِيرَةُ هي الأظْهَرُ في شعره المُتأخِّر؛ وردت كُلُّها في بعض رُدُودِ الغُرْمول، قال في إحدى هذه المُساجلات:
الحُوتِ ما هَمِّنِي فِعْلِـهْ وِإلىَ شَافَنْ نِفَرْنِي
أَرِكِّ قُوعَ البَحَرْ وَأعْمِي عُيُونِهْ عَنْ نِظَرْهَا
وقال في أخرى أيضًا:
دَارٍ بَنَاهَا الخَلِيلُ وتَمِّ (سُورَهْ) واسْتِتَمّ
وَأنَا أحْمِدَ اللهِ يَوْمِ إنَّهْ تِمَلَّكْهَا الإِمَامْ
فكلمة (شَافَنْ) في البيت الأوَّل، بحَذْفِ يَاءِ المُتكَلِّمِ وإِبْقَاءِ نُونِ الوِقَايَةِ مع إِسْكَانِهَا، ومَعْنَاهَا: رآني. وكذلك كَلِمَةُ (سُورَهْ) بمعنى: سُورَها وحائطها؛ كُلُّ هذا لَهْجَةٌ قَصِيمِيَّةٌ وشماليَّةٌ صِرْفَةٌ، ولَيْسَتْ مِنْ لَهَجَاتِ الحِجَازِ ولا بَوَادِيهَا أيضًا.
كما نَجِدُ في أَحَدِ رُدُودِ الغُرْمُولِ تَسْمِيَةَ البِنْدَقْ بـ(المِلْوَاع) مُقْتَرِنًا بِوَصْفِهَا بـ(مسلوبة)، في قوله:
أَنَا مِنَوَّلْ مِعِي (مِلْوَاعِ مَسْلُوبَةْ) عَلَمْ
أَعْتَاشِ فِيهَا مِنَ الخِرْنِقْ إِلَى رُبْدَ النَّعَامْ
وهذا الاقترانُ والتلازمُ بين الكلمتين تجده في شعر ابن دويرج، في قوله:
أَنَا فِيمَا مِضَى لِي بَاخِصٍ بَالرِّيمِ وِعْمُوقَهْ
أَطَرِّدْهِنْ مِعِي (مَسْلُوبِةَ) العِرْقُوبِ (مِلْوَاعِي)
كما وردت كلمة (جابوح) في أحد ردود الغرمول، وهي من لهجة عالية نجد ومعناها: المنخفض من الأرض المترع بالماء، قال الغرمول:
أَنَا لِي مِطْرَقٍ عَدْلَ المِقَاضِبْ مَيْرِ حَنْيَا
قِطَعْتُهْ مِنْ شِكِيرٍ نَاعِمٍ فَوْقَ الجِوَابِيحْ
والـ(مِطْرَقٍ): العصا الدقيقة المستقيمة الصُّلبة. و(الشَّكِير) بالكاف المُكَسْكَسَة (تَسَ): الغُصنُ الغضُّ أوّل ما يبدو (فصيحة). وقد وردت مُفردةُ الـ(الجابوح) عدة مرّات في قصائد ابن دويرج، كقوله:
عَلَى جَابُوحِ غِينٍ يَشْرَبَ الشِّهْلُولِ بِعْرُوقَهْ
يِمِيلِ إلَى صُبَا لِهْ مِنْ نِسِيمَ الرِّيحِ ذِعْذَاعِي
ومن التشابه في (الأسلوب) بين شعر ابن دويرج وشعر الغرمول في محاوراتهما، وِسِيمَة الغرمول في المحاورة الأولى:
يا سَلَامِي عِدِّ مَا جَرَّ القِنِيبَ الضَّارِي
كِلِّ (ما مِنِّهْ) تِضَوَّرْ فِي رِفِيعَ القَارِهْ(7)
فتعبير (ما مِنِّهْ) ومعناه: ما إنَّه، لا تجدُه بهذا التركيب إلا عند ابن دويرج، كقوله:
را: رُضَى لي بالمذلِّهْ والهَوَانْ
عقب (ما مِنَّهْ) ضحَكْ لي بالثِّمانْ
قلت له يا صاحبي ويش الخَبَرْ
الجفا عقب الموده ما يصير
وقوله:
اللهْ وِلِي كِلِّ (ما مِنَّهْ) لِبَسْ لَلْجِدِيدْ
مُهْرَةْ شِرِيفٍ يِحِفَّ الذَّيْلِ عِرْقُوبَهَا
ومن التشابُهِ في (الأفكار والتَّوَجُّهات) قول الغرمول في إحدى تلك المساجلات:
إِنْ عَوِّدَتْ يَمِّ دِينَ البَدُو يا دِينَ النِّدَمْ
بَدْوٍ هَمَجْ يَحْسِبُونَ الدِّينِ فِي لِبْسَ المَعَامّ
ومن المُستبْعَدِ أن يُقالَ هذا على لسانِ شَاعِرٌ بدويٌّ فضْلًا عن أن يكون عُتَيْبيًّا، لأنه - وإن كان يُوَافقُ عَلَيْهِ - تمنعُهُ شِيمَتُهُ من أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ سُوءٍ في أَحَدٍ من قَبِيلَتِهِ أو في جماعة (إخوان من طاع الله) التي اجْتَهَدَتْ فِي بعض شؤون الدِّينِ فأخطَأتْ، ثم تعصَّبتْ لما تراه فرفعت السلاح في وجه الإمام. وابن دويرج مَعْرُوفٌ بِمَوْقِفِهِ (الشَّديدِ الحادّ) تجاهها؛ لأنَّه - كما يُفهَمُ من بعض قصائده -رأى مِنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهَا الجَهَلَةِ الذين يَرَوْنَ إِلْزَامَ النَّاسِ بِمَا لا يَلْزَمُهُم، ما أَثَارَ حَفِيظَتَهُ وأَغْضَبَه، يقول من أبيات له:
قَالَوْا لِيَ النَّاسِ دَيِّنْ قِلْتِ دَرْبَ الدِّينِ هَاتُوهْ
وِإنْ كَانِ مَا أدَّيْتِ فَرْضَ اللهِ عَلَي اِفْبَرِّقُوا بِي(8)
كَانِ إنِّ لِبْسَ المَعَمِّ بْمِنْزَلَ الفِرْقَانِ شِفْتُوهْ
فَأنَا لِبَسْتِهْ لَوِ إنِّهْ مِنْ حَدَا شِلَّانِ ثَوْبِي(9)
ولاحِظْ التَعْبِيرَ بـ(المَعَمّ) بَدَلًا مِنَ (العِمَامَة) فهي مُطابقة لقول الغرمول. وَلَهُ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ في ذَمِّهِم قالها بعد مَعْرَكَةِ السِّبِلِة، مَطْلَعُهَا (دِينَ اللهْ نَافِي ما دُونَه).
وهكذا فقد ثَبَتَ لَنَا ما نَطْمَئِنُّ إلى تَأْكِيدِهِ من أن الغُرمول (شخصيَّةٌ وهميَّةٌ) اخترعها ابن دويرج، لا بِخَبَرٍ شفهيٍّ رَوَاهُ عارِفُو ابن دويرج ومُخَالِطُوهُ فقط، بل بملاحظاتٍ رصدنا فيها بعض (الظواهر اللغوية) المتطابقة بين أسلوب الغرمول وأسلوب ابن دويرج، استقْرَأْناها واسْتَنْتَجْنَاهَا من محتوى تلك المُساجلات، إكمالًا لما بدأه أبو عبدالرحمن ابن عقيل في كَلِمَتِهِ التي نَقَلنَاهَا قَبْلَ قَلِيل، حَوْلَ ما أسماهُ: (تَشَابُه النَّمَط) بين أسلوبِ ابن دويرج وأسلوبِ الغرمول. والظواهر اللغويَّةُ لا تكذبُ، خصُوصًا إذا كان بعضُها مما اختَصَّ به شاعِرٌ دون غيره. كما أنَّ المُقارناتِ برَصْدَ أَوْجُهِ التَّمَاثُلِ بين أسْلُوبَيْن لا تكذبُ أيضًا، فهي تَضَعُ اليَدَ على بعضِ ما يُسمُّونه (اللَّوَازِم الأُسْلُوبِيَّة) التي يَسْتَعْمِلُهَا الإنسانُ في كلامِه، ولِكُلِّ إنسانٍ لَوَازِمُه اللغويَّةُ الخاصَّة. وقد رأينا شَخْصِيَّة ابن دويرج ولَوَازِمَهُ الأسلوبِيَّةَ تَظْهَرُ جَلِيَّةً في رُدُودِ الغُرْمولِ في تلك المُسَاجَلات.
ونَظُنُّ أنَّ ابن دويرج لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ (التَّعْمِيَةَ) في تلك المُسَاجَلاتِ فضلًا عن أنْ يَعْمَدَ إلى إحْكَامِها كما يُشِيرُ ابن عقيل، وإنَّمَا خَصَّصَ اخْتِرَاعَهُ لهذه الشَّخْصِيَّةِ لِنَفْسِه؛ لأَجْلِ أنْ يُزْجِيَ مَعَهَا أوقاتَهُ في نُزُهاتِهِ من خِلَالِ المُحَاوَرَة، لا لأجل أن يُعَمِّيَ على الآخرين ويُوقِعَهُمْ في حَيْرَة؛ فهُو مِنْ أَبْعَد الشُّعَرَاءِ عن أساليبِ نظْمِ (الشِّعْرِ المُثيرِ المُوَجَّهِ) بقَصْدِ التَّأْثِيرِ على المُهْتَمِّينَ كما يَفْعَلُ مُعظمُ الشُّعَرَاءِ عندما يَرْغَبُونَ في اسْتِعْرَاضِ شاعرِيَّتِهِم ومَهَارَاتِهِمْ في التَّعْمِيَة وغيرهَا، وهُو من أَبْعَدِهِمْ عَنِ الاستعْرَاضِ المُثيرِ، مع أنَّهُ يملكُ من المَوَاهِبِ الفَرِيدَةِ في (الفَتْلِ والنَّقْضِ) وفي (ابْتِكارِ الأوزانِ والألحان) ما يُمَيِّزُهُ عن غيرِه كما ذكرنا في أول هذا الحديث؛ لأنَّه لم يكُن يُلْقِي قَصَائِدَهُ في مَحَافِلَ، بل كان يُغَنِّيهَا أثناءَ مُزَاوَلَتِهِ أَعْمَالَهُ اليَوْمِيَّة.
الهوامش:
(1) ذكرنا فيها ثلاثة أوزان عسيرة لم ينظم عليها أحد قبله وفق ما وصل إلينا من الشعر، ثم اكتشفنا وزنين آخرين لم يُسبَق إليهما، فصار المجموع خمسة. أما الأوزان المُطوَّلة بوساطة مدِّ التفعيلات وتكرارها كإطالة بحر الرَّمَل الثلاثي إلى رباعي أو خماسي، وإطالة بحر الهزج (الطرق الشيباني) الرباعي إلى خماسي وسداسي وسباعي و...، وغيرهما، فليس من الابتكار كما يراه الباحث أ. إبراهيم الخالدي، وكما نراه أيضًا.
(2) ديوان عبدالله ابن دويرج، أعده للطبع بندر الدوخي، إصدارات النخيل، ط1، 1410هـ 1990م ص20.
(3) السابق ص48.
(4) ديوان عبدالله ابن دويرج ص48.
(5) لا أعلم لماذا تجاهل الدوخي ذِكرَ اسم الربيعي، واكتفى بالإشارة إليه بهذه العبارة، كما تجاهل الرد على تساؤل مُقدِّم الديوان أبي عبدالرحمن ابن عقيل(ص5) عن مصادره في جمع ديوان ابن دويرج، في قوله: «والديوان مجموعتان اشتهرتا لدى الرواة: إحداهما من جمع الشاعر الربيعي، والثانية من جمع العمري رحمهما الله ... والناشر حفظه الله لم يُبيّن في مقدمته مصدره، هل نقل مباشرة عن المجموعين، أو عن أحدهما»، مع أن الدوخي علق على بعض كلام ابن عقيل في تقديمه هذا في مناسبتين في الحاشية ص26 وص43!
(6) أصول مخطوطات الربيعي موجودة في مركز ابن صالح في الجمعية الأهلية الصالحية في عنيزة.
(7) القِنِيبَ: العواء بصوت عال في الليل. الضَّارِي: السَّبُع، ويريد به هنا الذِّئب. ما مِنِّهْ: ما إِنَّه. تِضَوَّرْ: تلوى من ألمِ الجُوع. القَارِهْ: الجَبَلُ الصغير المنفرد، كما يُطلق على الأَكَمَة وهي التّلُّ والمكان المرتفع (فصيحة).
(8) دَيِّنْ: تدَيَّنْ. اِفْبَرِّقُوا بِي: فتأمَّلُوا في حالي وحاسبوني.
(9) المَعَمِّ: العمامة. شِلَّانِ: أطراف.