رقية نبيل عبيد
مؤخرًا قرأت الكثير جدًا من المقالات التي تتحدث عن اللغة العربية الفصحى المتداولة بين أبناء جيل هذا العصر، تقول المقالات إن هذه ليست بلغة عربية فصحى حقيقية، وإنها ما هي إلا ظل للباهت للأدب الإنجليزي والتعابير المستخدمة في اللغة الإنجليزية والتراكيب التي درجت لدى الغرب، تقول المقالات إن سبب هذا هو التأثر الشديد الذي يحمله أبناء الجيل الحالي تجاه كل ما هو غربي والافتتان غير المسبوق بحضارة الرجل الأوروبي الأمريكي.
مطالعة هذه المقالات هزتني بشدة، وجعلتني أعود لكل كلمة كتبتها وكل مقالة كنت أعتز بها وأراجعها حرفًا حرفًا، أردت أن أعرف إن كنت منهم، وما لاحظته أنني منهم ولست منهم، لدي تراكيب عربية أصيلة لكنني بلا شك تأثرت كل التأثر بسنوات من قراءة الروايات المترجمة، القصور في استخدام أساليب الاستثناء العربية على كثرتها والاعتماد على «تم» لوصف كل فعل في حين تعج عربيتنا بالأفعال المبنية للمجهول وغيرها لاحظتها بالفعل تختبئ كجراثيم صغيرة بين أحرفي، تلوث محبتي لها وتملؤها جروحًا متقيحة!
اليوم صرت أكثر قدرة على تمييز هذه التراكيب الدخيلة المستحدثة، وصرت بحق أستمتع كل الاستمتاع حين أمسك بين يديد كتابًا ما تُرجم من قبل، نجيب محفوظ أو الرافعي أو أحلام مستغانمي، خيال العراب وأجنحة جبران خليل جبران وكروان طه حسين، أيمن العتوم وسعود السنعوسي وبالطبع أستاذي الذي ما أتاح لي الزمان لقاءه والذي أجلّه كثيرًا وأرى في كلماته روحًا مخبوءة مني غازي القصيبي.
عندما بدأت «بالمنزل قبل الظلام» استطعت بسهولة تمييز الرائحة الأمريكية التي تفعم الصفحات، وبانت كل جملة برغم أنها مكتوبة بأحرف عربية غير أنها لا يمكن إلا أن تكون انعكاسًا للمفردات الإنجليزية والتعابير الغربية القحة، لم يزعجني هذا كثيرًا فقد أردت رواية خفيفة تسليني عن الكآبة التي أغرقني بها نجيب محفوظ في آخر لقاء بيننا على أعتاب روايته عصر الحب، لكن الجمل ظلت طوال الوقت جامدة بصورة سخيفة،شاحبة غير متلونة ولا حية، وعبتُ هذا في المترجم الذي نقل كل عبارة وكل كلمة وكل تعبير كما هو بالضبط دون أن تسعفه قريحته العربية في الانتقاء من بحر العربية الذي لا يحدّه ساحل.
ماجي عاشت قديمًا ببانبيري هول، المنزل العتيق الضخم ذو الحجرات المائة الذي لابد وأن تحويه أية قصة رعب تحترم نفسها، الطفلة الصغيرة ذات الخمس سنوات ترى أشباحًا لا يراها غيرها، هذا واضح ومفروغٌ منه، الأب الروائي صاحب المخيلة الخصبة يبدأ في تصديق أن أصوات الأقدام ومصارع الأبواب التي تدق والأجراس التي ترن بين الردهات ليست من بنات خياله بعد كل شيء، الوالدان وضعا ثروة في هذا المنزل ولا يمكن لهما أن يرحلا عنه لمجرد أن أرواحًا ميتة سخيفة قررت أن تجول غرفاته بعد رحيلها، هذي أيضًا ثيمة محفوظة ومكررة، بالطبع لا بد وأن تنتصر الأشباح آخرًا وتهرع الأسرة بعد وقت قصير في منتصف ليلة قاتمة بملابس النوم مغادرين البيت المشؤوم الذي يتضح أنه حقًا مأوى لكل الأعاجيب والغرائب التي يحويها عالم ما وراء الطبيعة، الأب العملي الكاتب الذي أفلس وأسرته ينتهز الفرصة ويؤلف كتابًا عمَّا لاقته الأسرة من أهوال داخل جدران البيت المخيف، يتخذ الكتاب مسارًا خاصًا به، وتبلغ شهرته الآفاق وتثرى الأسرة المنكوبة مرة أخرى، لكن الكتاب والأحداث التي لا تذكر منها شيئًا يفسد حياة ماجي إلى الأبد ويلقي بظلال سوداء تطالها طيلة حياتها.
ماجي تكبر خمسة وعشرين عامًا، ماجي تذهب للمحامي من أجل الحصول على متعلقات أبيها الذي توفي مؤخرًا، ماجي تفاجأ بمفتاحين ضخمين يضعهما المحامي بين يديها قائلاً «مبارك! أنت الآن مالكة منزل بانبيري هول! نعم والدك لم يبعه قط! نعم والدك استمرّ في زيارته طوال حياته، نعم لا أحد قط يعلم بهذا السرّ».
قابضة على المعدن البارد تفكر ماجي أنها الآن وأخيرًا قادرة على اكتشاف المجهول ومواجهة الماضي الذي لا تذكره وإماطة اللثام لمرة واحدة وأخيرة عن كل الأسرار التي خُبئت عمدًا عنها.
منذ تلك اللحظة انقسمت القصة في خطين زمنيين متوازيين، الأول في الماضي يحكيه الأب بُعيد انتقال الأسرة الصغيرة السعيدة مباشرة إلى الضيعة الواسعة والمنزل الأثري، والثاني في الوقت الحالي تحكيه ماجي المرأة،العائدة بفضول وخوف وحذر لتكشف أسرار الماضي.
بالطبع حيوات كثيرة فقدت في بانبيري هول، أرواح أكثر عُذبت،الأب يقتل ابنته ثم يصعد إلى الطابق الأخير من المنزل ويلف كيسًا حول رقبته ليقضى مختنقًا، الابنة الشابة تتناول التوت الأحمر السام مختارة عن طواعية إنهاء حياتها، مآس كثيرة، أسرار دفينة، ميتات لا تحصى عبر تاريخ البيت العتيق، وأوجاع المآسي تبقى! والبيت ي تذكر! البيت لا ينسى!
والفرق في هذه القصة أن بطلتها تريد إثبات كذبتها! مثلها مثلك فهي لا تصدق! وتسعى بإصرار وعناد لتكتشف الخدعة المبني عليها الحكاية برمتها.
ورغم الثيمات المتكررة، برغم الأصوات الصاخبة التي تنطلق في منتصف الليل والظلال البشرية السوداء التي تظهر على حافة الغابة والفتاة المراهقة التي اختفت دون أثر فيما تهيم والدتها العجوز باحثة عنها هاتفة باسمها في كل مكان والطفلة الصغيرة التي ترى،الطفلة التي تعرف أكثر من الكبار لكنها لا تتكلم ببساطة لأن أحدهم لن يصدق الأطفال، برغم هذا القصة مسلية بحق، ولا تملك خلالها إلا الإعجاب بشخص ماجي وصلابتها وحبها ومقتها لأبيها في آن، تدفع عنه التهم ضد نفسها وضد أهالي القرية جميعهم.
غير أن هناك شيئاً ما مفقود، حلقة ضائعة، بعثرة ما لا تنتمي للمنطق، لا أدري هنالك خلل وأعجز عن وضع يدي عليه لتحديده، القصة بها كل العناصر : الرعب الدراما الغموض الخوف ولمسة رومانسية وجريمة ارتكبت في الماضي وما عُثر على فاعلها، لكن كل هذه العناصر المخلوطة في القصة ناقصة، كل عنصر باهت الحضور يسحب ظلًا شفافًا من ورائه، هكذا يعتريني الملل تارة وتأخذني الإثارة تارة أخرى! لكنها بلا شك توليفة ساحرة، هناك مفقودة، هناك جريمة، هناك أشباح، هناك غموض محبب، أحب كثيرًا عالم الرعب المنطقي حتى وإن كانت منطقيته يعتورها الخيال، بمعنى أن لا ينتمي التفسير للماديات لكنه يبقى تفسيرًا مقنعًا يزيد من جاذبية القصة وحبكتها، وهكذا كانت هذه الرواية، كل غموض من ورائه سبب، كل رعب خلفه ما يبرره، كل الكلمات والأحاجي الناقصة شكلت لوحة فريدة مقنعة ومؤثرة عندما فُتحت ستارة المسرح للجمهور كاشفة كل الغموض آخرًا.
في النهاية توصلت إلى أن هذا الخلل فيّ ولا شك، المرأة شبه الناضجة مني ما عادت تريد قصصًا للأشباح والبيوت المظلمة المسكونة والحجرات التي تنطوي على أسرار غامضة وخطيرة دفنت بين جدرانها، ربما ببساطة لأن الواقعية مرعبة، مُقبضة وتحوي من المعجزات أكثر بكثير من أي خيال قد يتفتق عنه ذهن كاتبٌ ما.