د.أحمد بن محمد الدبيان
يمتاز العمل الدبلوماسي والسفارة في البلدان الأخرى بمواهب خاصةٍ لا بد منها لنجاح العمل. ولعل من أهمها سعة الأفق والثقافة، وإدراك الفوائد، والذكاء وحسن التوقع للأمور ونتائجها، البحث عن المنفعة؛ لأن السفير واجهة للبلد وممثلٌ له، فإذا اجتمع مع هذه المزايا عشق الكلمة والثقافة والتبحر العلمي خرج إلينا نمطٌ جميل ورائعٌ يقلُّ نظيره! والعمل الدبلوماسي من أسباب إيقاد الجذوة العلمية والأدبية والفنية في النفوس عند أصحاب المواهب الذين يتجاوزون دور الوظيفة والمسؤوليات الإدارية.
وسأضرب هنا أمثلة بسفيرين أدركت أحدهما وعملت معه، وعرفت الآخر من نتاجه العلمي الرائع.
أما الأول الذي أذكره هنا فهو السفير السوداني صلاح الدين عثمان هاشم الذي ولد في أم درمان في السودان سنة 1341هـ = 1922م وتخصص في التاريخ من جامعة القاهرة، كان موهوباً في تعلّم اللغات وأجاد الإنجليزية والفرنسية والألمانية ودرس اللغات الروسية والفارسية والتركية في باريس وهامبورج وموسكو ولغاتٍ أخرى، وعمل في وزارة الخارجية المصرية وبعد استقلال السودان عام 1956م، التحق بوزارة الخارجية الجديدة في السودان، وتم تعيينه مستشاراً فيها. ولحسن حظنا وحظ العلماء والقراء باللغة العربية انتقل هذا العالم الجليل في العام نفسه مستشاراً في سفارة السودان بموسكو لإجادته للغة الروسية.
انتقل عالمنا وسفيرنا هذا في عدة وظائف دبلوماسية وفي عدد من العواصم الهامة، حتى صار سفيراً في موسكو نفسها وفي طهران أيضاً وغيرها... ولشغفه بالعلم لم يكن، على ما يظهر، يوفّر وقتاً بلا قراءة واطلاعٍ وتعلّم للغات الأخرى والاطلاع فيها، حتى أصبح عضواً في عدد من الجمعيات العلمية العالمية.
كان تعيينُه في موسكو مكسباً علمياً للعرب كلهم فقد انكبّ هذا السفير العالم على النقل والترجمة من اللغة الروسية إلى العربية، ولم ينقل لنا رواياتٍ وقصصاً كما يستسهل بعض المترجمين، بل نقل كتاباً عظيماً ما زال مرجعاً في بابه وهو (تاريخ الأدب الجغرافي العربي)، لعميد المستشرقين الروس اغناطيوس كراتشفوسكي المتوفى سنة 1951م، وقد صدرت الترجمة في طبعتها الأولى من الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية في عام 1957م. وانطلق المترجم القدير بعد ذلك ليترجم كتاباً صعباً جداً وهو كتاب (العرب على تخوم فارس وبيزنطة بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين ) للمستشرقة الروسية الكبيرة نينا فكتورفنا بيقولفسكايا المتوفاة سنة 1970م، وقد صدر كتابها سنة 1964 م في لينينجراد. وكتابها هذا من أصعب الكتب موارد ومراجع لدقة الموضوع، ولرجوعها إلى المؤلفات البيزنطية والعربية والسريانية وغيرها. وقد نشر هذه الترجمة الهامة المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون بدولة الكويت في عام 1985م. وصدر لها مؤخراً كتاب ( ثقافة السريان في العصور الوسطى) وترجمه قبل بضع سنوات الأستاذ خلف الجراد، وصدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب سنة 2019 م.
ثم انطلق السفير العالم إلى كتاب آخر صعبٍ جدا وهو كتاب ( تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي) للمستشرق الروسي فاسيلي فلاديميروفيتش بارتولد المتوفى سنة 1930 م وهذا المستشرق يحتاج إلى وقفةٍ أطول لعلنا نلمّ بها في مقالةٍ أخرى لتفرده بأشياء تستحق الذكر. وكتابه هذا من طينةٍ أصعب ونفسٍ أطول كذلك لصعوبة الموضوع على الدارس العربي وتوارد لغات كثيرةٍ من مصادر متنوعة لا غنى عنها. ونشر هذا الكتاب النفيس كذلك في الكويت العزيزة سنة 1980 م.
وتوفي هذا المترجم الفذ في أمريكا سنة 1408 هـ = 1988 م، ففقد الباحثون العرب رجلاً من طرازٍ نادر جمع الشغف العلمي والقدرات العلمية والدبلوماسية التي لا أشكّ أنها حركت أمواج نفسه، فينطلق كالفارس الشغوف لإنقاذ عروسٍ جميلة هي هنا المعرفة والعلم -رحمه الله-.
أما الثاني فهو معروفٌ جداً لدى القارئ في بلادنا الكريمة، بل في العالم العربي وهو معالي السفير الوزير د. غازي القصيبي –رحمه الله- المتوفى سنة 1431 هـ = 2010 م في الرياض. تخرج في القانون من القاهرة ثم حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من أمريكا. ومع أن تخصصه في القانون ثم العلاقات الدولية وهي تعتمد على القانون إلا أن السفير كان طائراً من سربٍ آخر غير سرب القانون المتميز عادةً بالوضوح الجادّ والصرامة وتمييز الألوان بعضها من بعض، ورسم الحدود والفروق...، فهو أديب وشاعر وروائي والشاعر والأديب كلاهما يخلط الألوان، بل يرشقها يميناً ويساراً؛ فجمالها في اختلاطها، وإذابة الحدود انطلاق، كما ترى في اللوحات التشكيلية الجميلة. وهذا الممرّ الضيق يحدث تجاذباً بين الوجدان والمهنة تراه موجوداً لدى د. غازي عندما تقترب أكثر إلى عالمه رحمه الله.
عملت مع معالي السفير عامين اثنين، في سفارة خادم الحرمين الشريفين في مدينة الضباب لندن، ورأيت فيهما ميزات الدبلوماسي الذكي الطُّلعة، وتجلى أمام عينيّ شغف الأديب وهمة المثقف وصدق الالتزام المهني، ولم يكن مجلسُه إلا ملتقى أدبياً منوّعاً تجد فيه الأديب والشاعر والمؤرخ والقاصّ والروائي من كل البلاد العربية، وكان غازي كل هؤلاء مجتمعين فهو شاعرٌ وأديب وقاصٌ وروائيٌّ. والروائي طائرٌ جميلٌ يطير بجناحٍ من الخيال بجوار المؤرخ الذي يطير بجناحٍ قويٍّ من الواقع. فحلّق سفيرنا في كل هذه الأجواء الخياليية الجميلة وقد اجتمع لدى غازي مع شغفه وإبداعه الأدبي تخصصه العلمي في العلاقات الدولية وهي أساس الدبلوماسية، وبهذا فاض الكأس لديه ليصبح رجلاً من طرازٍ فريدٍ نادرٍ. ومع كل ذلك يسأل عن الدين والفتوى، ويثير تساؤلات فكرية عديدة. ولأني عرفته من قريبٍ، ومع أن المدة ليست طويلةً؛ فأود أن أذكر بعداً ثالثاً وهو البعد الإنساني لدى هذا السفير؛ فهو من النوع الذي تظهر عليه الجدية في اللقاء، وله هيبةٌ وطلعةٌ خاصة، يقتحم عليك عقلك في لحظات بقوةٍ وجرأةٍ، ولكن سرعان ما تكتشف أن وراء هذه الهيبة قلباً رقيقاً رحوماً. وفي عملك معه تعتقد أحياناً أنه قد نسيك؛ لأنك قد تكون بعيداً؛ لاتراه ولايراك بسبب العمل، ولكنك تكتشف بعد وقت قصيرٍ أن حاسوب عقله قد أرشفك ووضعك في مكانك في زاوية ما من عقله، ولم ينسك أو تسقط خارج الأرشيف، لترى بعد وقتٍ قصيرٍ مبادرة منه تعيدك وسط التيار المتدفق، فإن كان لديك الشغف الذي لديه سبحت معه في محيطه الواسع والعميق، وإن لم تكن كذلك أمسكت بحجرٍ في الشاطئ كأعمى يلتمس الطريق، أو طفلٍ يتعلم السباحة- وهكذا كان الزملاء الأعزة في سفارة خادم الحرمين الشريفين في لندن، منهم من يسبح ومنهم من يقف على الشاطئ -رحم الله ذاك الرجل. وسأعود إليه مرة أخرى بإذن الله؛ فهو كمحطة قطارٍ وسط المدينة لا نبتعد عنه كثيراً في ذكرياتنا وأفكارنا، بل نعود إليه مرةً بعد مرةٍ.