د.حسن مشهور
عند التعاطي مع الوجود الفلسفي في العالم برمته ومن ضمنه العالم العربي، فسنجد بأن دول الخليج العربي، ومنها المملكة العربية السعودية، قد تأخر فيها الاهتمام بهذا الضرب من الفكر الذي قد لعب دورًا هامًا في التطورية الفكرية والثقافية وقبل ذلك الإنسانية العالمية. ويمكن لي رد هذه الـتأخرية الحضورية للفلسفة لجملة من الأسباب التي يأتي على رأسها؛ التوجه الديني المحافظ الذي كان ينظر لنفسه باعتباره يمثل مركزية في الحياة الثقافية والاجتماعية، وهو ما جعل الفلسفة تُعتبر أحيانًا مسألة غير ضرورية أو بعيدة عن اهتمامات المجتمع.
هذا إلى جانب القلق غير المبرر الذي كان متواجدًا لدى البعض من أن تؤدي الفلسفة إلى التشكيك في بعض المبادئ الدينية الأساسية، ومن هنا فقد أخذ هؤلاء يضغطون باتجاه إبعادها عن المناهج الدراسية حينذاك، كما إن البعض ممن يسمع فقط ولا يقرأ أو يطلع ويفحص الأمور قبل إصدار الحكم عليها، قد كان يتابع بعض الأقوال الخاطئة التي كانت تدعي بأن الفلسفة تعد مضادة للدين.
وعلى الرغم من أن بعض الجامعات السعودية قد بدأت في تقديم برامج في الفلسفة في العقود الأخيرة، كجامعة الملك سعود وجامعة الملك عبد العزيز، اللتين تتيحان برامج دراسات عليا في الفلسفة، إلا أن الفلسفة لم تكن موضوعًا رئيسيًا في عموم مؤسسات التعليم العالي في المملكة، وهذا الافتقار إلى وجود بيئة أكاديمية داعمة قد أدى بالتالي إلى التأخر في إنشاء الأقسام الخاصة بالفلسفة مقارنةً بالتخصصات الأخرى، فالفلسفة تتطلب في الغالب بيئة أكاديمية مرنة ومفتوحة للنقد الفكري، وهو ما قد يواجه ببعض القيود في السياقات المحافظة.
بيد أن الجميل إنه في العشر سنوات الماضية، قد زاد الاهتمام بالتداولية الفلسفية في الداخل السعودي، حيث تمظهرت هذه الوجودية الفلسفية في قوالب بدا بعضها متأثرًا بالتراث الديني والعلمي الإسلامي، في حين قد اصطبغ البعض الآخر بتلك التحديات التي فرضتها العولمة والعصر الحديث. وهذا الأمر قد مهد لنشوء جيل من المفكرين والمثقفين السعوديين من الجنسين الذين يسعون إلى دمج الفلسفة مع القضايا المعاصرة، مثل قضايا الهوية، والمجتمع، والدين، والتحديث. والأجمل من ذلك إنه قد وجد في الساحة الفكرية والثقافية السعودية، البعض ممن قد بدأ يعكف على تأصيل مفاهيم فلسفية في ضوء الدين والثقافة العربية كالصديق والزميل الصحفي زكي الميلاد، بينما نجد آخرين وقد سعوا لأن يطرحوا قضايا تتعلق بالعولمة والحداثة.
بيد أن ما قد يجهله هؤلاء إن الوجودية لا يمكن أن ينظر إليها باعتبارها فلسفة قائمة بذاتها تتسم بالتكامل والترابط الداخلي، ومن ثم يمكن أن تكون لها الامتدادية التأثيرية والتأثرية الخارجية. وإنما هي في تقديري مجرد مقاربات فكرية قد كانت وليدة عصر أوروبي قد كان يمثل الفاتح المرحلي للانفتاح والانعتاق من كل موروث محافظ في أوروبا. فمجمل جهود من أسس لها كالفرنسي جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار إنما كانت تمثل آراء - مضادة للعرف الاجتماعي والتقاليد الاجتماعية الموروثة عبر أجيال في أوروبا - تحت مطلة عناوين ضخمة وجاذبة أمثال تأكيد وجودية الإنسان على أي وجود آخر وتأكيد الحرية الفردانية التي تنطلق في مختلف الاتجاهات دون قيد أو شرط وبغض النظر عن نوعية هذا القيد، فالمهم هو الانعتاق من القيد بغض النظر عن نوعه.
وأذكر جيدًا بأنه قبل قرابة 34 عامًا كنت قد قرأت كتاب أول فيلسوف وجودي في عالمنا العربي وأعني به الدكتور عبدالرحمن بدوي «الزمان الوجودي»، ثم قارنته بكتاب مارتن هيدجر «الوجود والزمان»، وكتاب جان بول سارتر «الوجود والعدم»، فوجدت بأنه رغم التماثلات التي تولدت عن النقل، إلا إننا لسنا بإزاء فكر فلسفي مكتمل وقابل للارتقاء الفكري بالإنسان بشكل يحقق تفاعله الإيجابي مع محيطه ومن ثم الحد من التضاد الذي سيتولد عن علاقة الإنسان بمحيطه الاجتماعي وجراء تفاعلاته مع مختلف المؤثرات المحيطة به.
وعلى الرغم من مناداة بعض المهتمين بالفكر الفلسفي الوجودي في عالمنا العربي كأنيس منصور والدكتور زكي نجيب محمود اللذين ناديا بما يمكن لي تسميته بالوجودية المؤمنة، إلا إن تحقيق هذا الأمر في مقابل أفكار سارتر ومارتن هيدجر اللذين ارتأيا بأنها هي المنطلق الرئيس لفكرهم الوجودي، فإن هذه المحاولة قد كانت في تقديري نوعًا من العبث الفكري غير الداعم للفكر الوجودي بل إني أعتبره إعلانًا تفويضيا للفكر الوجودي، فهو في تقديري لايعد سعيًا للتصالح مع الموروث الديني العربي فقط لنيل رضى التيارات المحافظة آنذاك، وإنما هو انعكاس لفشل الوجودية لأن تتحقق في المجتمعات الإسلامية وأكثر من ذلك المجتمعات العربية ذات الثقافة الاجتماعي والعادات العربية المتوارثة منذ عقود.
لكن يمكن لنا أن أؤكد على بعض نجاحات الفكر الوجودي – وليس الفلسفة الوجودية لأني لا أؤمن أننا نقف كما أسلفت إزاء طرح فلسفي مكتمل- فيما طرحه مارتن هيدجر عن (الدازاين) وفكرة القلق المحرك للإنسان، وهذا الأمر قد تناولته في أحد كتبي الذي صدر منذ ثمانية أعوام وحمل اسم «الميتافيزيقية الشعرية»، وتناولت فيه بالتفصيل فلسفة ماوراء الطبيعة وانعكاساتها على الشعر العربي والعالمي وتأثير القلق الدائم على فكر وشعر الأدباء في العالم كافة قاطبة وعلى مختلف أنواع الشعر.
وقد اطلعت منذ عدة شهور على حلقة فلسفية تتناول الفكر الوجودي لجملة من المهتمين بالفلسفة في الداخل السعودي من مختلف الأعمار والأجناس، وأعتقد بأنها ربما قد عقدت تحت مظلة (جمعية الفلسفة) التي تأسست في الداخل السعودي في العام 2020م، وقد كانت الحلقة الفلسفية تتناول الوجودية كفكر فلسفي في اعتقادهم. ووجدتني أقول رغم سعادتي بهذا الاهتمام الفلسفي السعودي، بأن جهد هؤلاء الشباب من الجنسين للتأصيل للوجود الفلسفي في الساحة السعودية، لن يثمر بل سيظل يراوح مكانه لأن الفهم الفلسفي والاختيار والمعالجة الفلسفية تتطلب في البدء أن يقوم الفرد بقراءة مجمل ما كتب عن كل فلسفات العالم في لغتها الأصلية أو في النص الإنجليزية لأنه يكون في الغالب واضحًا ولا يتدثر بالرمزية مخافة الإسقاط السلبي ومن ثم المحاسبة. ثم مطلوب منهم بعد إكمالهم للقراءة المتعمقة في فكر فلاسفة حقيقيين أمثال الفيلسوف الألماني أرتور شبنهاور ومواطنه جورج فيلهلم هيجل وفلسفة فريدريش نيتشه أن يتجهوا صوب فلسفات مكتملة أخرى وأن يتخلوا عن الوجودية لأنها تعد في تقديري فكرًا وليست فلسفة مكتملة كم أشرت في مقالي هذا.
والجميل في تقديري وهو مما سيساعد هؤلاء الشباب من المهتمين بالفلسفة أن يمضوا في طريقهم الفكري وسبيلهم الثقافي هذا إنهم لن يجابهوا بأقوال أو نظرات أو تعليقات أو إسقاطات من قبل آخرين، فالمجتمع السعودي قد تحدث وانطلق نحو إثبات وجوده في كافة المجالات الحيوية والإنجاز الفكري والعلمي العالمي بفضل قيادتنا السعودية الواعية، كما أن التيارات التكفيرية قد انزاح خطرها وشرها -ولله الحمد- عن المجتمع بفضل تعاضد قيادتنا السعودية الحكيمة وأبناء مجتمعنا السعودي الأشم. ولازلت أذكر حين كنت أدرس في عام 1998م في جامعة نورث كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية، أنني كنت - في أوقات فراغي محاضراتي- أحرص على حضور تلك المحاضرات في الفلسفة التي كان يلقيها أستاذ الفلسفة في الجامعة الفيلسوف ورئيس تحرير مجلة «التابو السياسي»، ديفيد جيبارد، وبأني قد كنت أجابه بسيل من الانتقادات والتجريم من قبل العديد من أقراني فقط لأني أحضر لدى أستاذ فلسفة ملحد، وأذكر بأني قد كنت أرد عليهم باسمًا بأنه لا يعنيني إلحاده بقدر ما يعنيني فكره وعلمه. والآن أقول بأن هذا الفكر الذي يعاني من الارتياب والمتسم بالسطحية والخوف من المجهول ومتابعة الآخرين في منطلقاتهم الراديكالية والتكفيرية كما أوضحت قد أصبح من الماضي، ومن هنا فأمام الجيل من المهتمين بالفلسفة الطريق للانطلاق والاستفادة والإفادة الفكرية.
وعلى الرغم من هذه التوجهات الإيجابية نحو تعزيز الفلسفة في السعودية، فإن هناك تحديات عدة لا تزال تواجهها. لعل من أبرزها؛ انفتاح المجتمع السعودي على الفكر الغربي والأوروبي بشكل جزئي إلى حينه، وهو ما قد يؤدي إلى صعوبة في التوفيق بين الفلسفة الغربية والهوية الثقافية والدينية للمجتمع السعودي.
وإذ أخذنا إلى جانب ذلك محدودية الموارد الأكاديمية والمراجع الفلسفية المترجمة، وغياب نقاشات فلسفية عامة يتبناها ويبرزها الإعلام ومراكز التثقيف كالنوادي الأدبية والمقاهي الثقافية، فإن مجمل ذلك سيشكل عوائق أخرى أمام التطورية الفلسفة في الحقلين المعرفي والثقافي بمملكتنا الحبيبة.
ورغم هذه التحديات، ففي تقديري، تُعد الفلسفة مجالاً واعداً في المستقبل، إذ مع جملة الإصلاحات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها المملكة في السنوات الأخيرة، فهناك فرص أكبر لتطوير الفكر الفلسفي في المملكة العربية السعودية، إذ إن الاهتمام بالفلسفة سيمثل فرصة فكرية لفتح أفق جديد أمام المفكرين السعوديين للمساهمة في بناء مجتمع قائم على التفكير النقدي والتطور المعرفي، كما أن الفلسفة في تقديري ستمثل رافدًا قويًا لتحقيق رؤيتنا السعودية 2023، التي تهدف بشكل رئيس لتعزيز التنوع الفكري، وتشجيع الابتكار الثقافي والتعليمي، وتحقيق التنمية الفكرية والتقدم الثقافي في الداخل السعودي.