د. جاسر الحربش
أكتب اليوم معزياً نفسي وأهل وأصدقاء المرحوم سليمان محمد المنديل الكثيرين في الداخل والخارج، بعد أن عاش كريماً وغادر كريماً، فترك فراغاً يصعب ملؤه.
تعرفت عليه بالصدفة المحضة قبل قرابة خمس وعشرين سنة. جذبتنا لبعض الاهتمامات الشخصية المتماثلة ومنها محاولة التعرف على الثقافات والشخصيات المؤثرة في التاريخ والشعوب والحضارات، واستقراء الواقع العربي والمحلي منه بناءً على المعلومة المختزنة في الذاكرة من القراءات والحوارات، ولم نكن زميلي عمل أو ارتباط وظيفي.
المرحوم كان رجل إدارة من الطراز الرفيع وصاحب تواصل اجتماعي واسع، ومحدثكم طبيب شديد التعلق بمهنته وبما تتيحه له من التعرف الواسع كماً وجغرافياً وطبقياً على الإنسان في حالة المرض وعلاقته بأهله ومجتمعه وبالحياة الأولى والآخرة. كان بطبعه وطبيعة عمله منفتحاً بإيجابية ناقدة شجاعة على الكثيرين من النافذين والمؤثرين في المجتمع، أما محدثكم فهو من النوع المتحفظ اجتماعياً يفرغ بعض مكنوناته وانطباعاته أحياناً في كتابة مقال أو مقابلة تلفزيونية نادرة.
كان الفقيد - رحمه الله- زينة المجالس في الحوارات واختيار المواضيع للنقاش، يتكفل تطوعاً بإدارة الجلسة وبعمق ثقافته المعرفية من يتحدث ومن يصمت حسب الاختصاص والاهتمامات الشخصية.
واثقاً بخبرة المجالسة والمعايشة أقول أنه كان في حياته شجاعاً مقداماً ظريفاً من النوع الذي يمكن للسامع أن يحبه ويعجب به في نفس الوقت الذي قد ينزعج من تعليقاته العفوية المرحة بطريقة لا تجرح الآخر بقدر ما تجعله يدرك صدى رأيه عند الحضور. في دائرة أصدقائه الخاصة كنا نضحك كثيراً على تعليقه العفوي على رأي لم يعجبه قائلاً: «هذا رأي يستحق الذهاب إلى مزبلة التاريخ».
هكذا كان الانطباع عنه وهو نابض بالحياة وبالقدرة على الإمتاع والمؤانسة حسب قاعدة لكل حادث حديث، فما هو الانطباع عنه عندما كان في أيامه الأخيرة على فراش المرض قبل المغادرة. لقد كان وهو يصارع مرضاً عضالاً لا شفاء منه أكثر شجاعة ورباطة جأش مما كان في حياته، وهو الشجاع الجريء في كل مجلس وحوار.
في آخر حديث لي معه في أيامه الأخيرة قبل ثلاثة أو أربعة أيام من الرحيل عانيت داخلياً من صدمة الوضوح في قناعته ورضاه بأنه مغادر قريباً لا محالة بحكم إدراكه العميق لوضعه الصحي الحرج. لقد كان على أتم الاستعداد النفسي الممزوج بالفرحة المضمرة بلقاء المرحومين والديه في رحاب الله الواسعة وبرجاء رحمته وغفرانه. عندما كنت أحاول الاحتيال عليه كطبيب يختزن خبرة نصف قرن مع المرضى والمرض لرفع معنوياته والإلحاح عليه بالتفاؤل فيجيبني ساخراً: «أنت تعرف وأنا أعرف» بمعنى لا تحتل علي يا صديقي الطبيب باللف والدوران.
غادرنا أبو هاني شجاعاً قوياً لدرجة الإدهاش الممزوج بالإعجاب، تماماً مثلما كان مقداماً في حياته المتوثبة المتوهجة بالنهم التعرفي والمعرفي والالتزام بمنطق الحياة والموت.
اللهم ارحم أبا هاني سليمان محمد المنديل واجمعه بوالديه في جنات النعيم.