د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
يمر العالم باضطرابات شديدة وتوترات تجارية، ما يؤثر على معدلات النمو العالمية، ومن ثم ارتفاع التضخم الذي ينعكس على انخفاض القوة الشرائية في وقت تسعى فيه بعض الدول إلى فرض رسوم جمركية على بعض الصادرات تحد من حجم التجارة الدولية.
تعاني الولايات المتحدة عجزا تجاريا مع دول العالم بسبب التوسع السريع للاقتصاد الأمريكي، واختلال التوازن التجاري بشكل خاص مع الصين والاتحاد الأوروبي ومع بقية دول العالم، بسبب انخفاض معدل الادخار لدى الأمريكيين، والتغطية عالية المخاطر للأصول الأمريكية للأجانب، حيث تعاني الولايات المتحدة عجزا تجاريا منذ عام 1976 وتراجعت الصادرات الأمريكية على أساس شهري وصلت في 2008 نحو 211 مليار دولار مقابل 266 مليار دولار واردات، مقابل ارتفاع الصادرات الأمريكية الشهرية في 2023 نحو 251 مليار دولار.
لكن ارتفع العجز التجاري بسبب ارتفاع الواردات أكثر من ارتفاع الصادرات وبلغت الواردات الشهرية 316 مليار دولار أي أن العجز التجاري الشهري أصبح 65 مليار دولار فيما يبلغ العجز التجاري السنوي نحو 780 مليار دولار مقابل عجز تجاري سنوي في 2008 نحو 660 مليار دولار، ارتفع العجز التجاري الشهري في 2024 نحو 75 مليار دولار بعجز تجاري سنوي 900 مليار دولار، فيما بلغ العجز التجاري مع الصين الشهري نحو 24 مليار دولار في 2024، أي يقترب سنويا من 300 مليار دولار نفس الرقم مع الاتحاد الأوروبي، ومع كندا نحو 50 مليار دولار سنويا وأكثر من ذلك مع المكسيك.
قام النظام العالمي فيما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية على أساس حرية التجارة الدولية كوسيلة لحفظ السلم والأمن الدوليين، حيث أدركت القوى الكبرى أن الحربين وقعتا نتيجة للتنافس الدولي على الموارد والأسواق، فجاء نظام بريتون وودز والبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية، بهدف إنشاء نظام عالمي نقدي مستقر لتجنب تخفيض العملات الذي جرى بين الحربين العالميتين وقبلهما، فالبنك الدولي يرفع القدرة الاستهلاكية ومنظمة التجارة تضمن حرية تدفق التجارة الدولية وكأنها سوق واحدة.
لكن باتت جولة الدوحة لمنظمة التجارة العالمية منذ 2001 علامة فارقة على فقدان العولمة أي حرية التجارة التي أصبحت مهددة، خصوصا بعدما بدأت الدول المتقدمة التي وضعت هذه المنظمات إجراءات حمائية على قطاعها الزراعي، وبدأت الولايات المتحدة في نزاعها مع شركائها التجاريين عبر إجراءات حمائية مباشرة بهدف خفض العجز التجاري السلعي معهم، ولم تفرق بين حلفاء وخصوم، طالت هذه النزاعات الصين، أوروبا، الهند، تركيا، المكسيك، وغيرها خصوصا عندما نما العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين من 268 مليار دولار في 2008 إلى 418 مليار دولار في 2018 بعدما كان العجز التجاري صفرا في 1985.
أرجعت الولايات المتحدة ارتفاع هذا العجز إلى الممارسات التجارية غير السليمة منها سرقة الملكية الفكرية، الإعانات الحكومية للشركات الصينية، مما يمنحها ميزة غير عادلة على المنافسين الأجانب، التلاعب بالعملة، فيما بدا حربا من الولايات المتحدة على مبادئ حرية التجارة نفسها التي لعبت دور حارسها لنحو نصف قرن، ورد هؤلاء الشركاء بما بات يهدد استقرار نظام التجارة العالمية ذاته.
لكن توصل الطرفان الولايات المتحدة والصين في ديسمبر 2019 إلى اتفاق بموجبه تشتري الصين ما قيمته 200 مليار دولار من المنتجات الزراعية وموارد الطاقة والسلع المصنعة الأميركية وغيرها خلال 2020، لكنها تضر بممارسات التجارة الحرة، لم تتوقف الولايات المتحدة عند هذا الحد بل اتجهت نحو الحرب التكنولوجية لوقف التقدم التكنولوجي للشركات الصينية ومنعها من حيازة تكنولوجيا تقارب أو تتفوق على تلك التي تمتلكها الشركات الأمريكية.
باعتبار السعودية دولة تقيم علاقة مع جميع الشركاء وبحكم مكانتها أرادت وقف هذه الحرب التي تهدد أمن التجارة العالمية والجميع فيها خاسر، وأرادت صياغة نهج الاقتصاد العالمي، وتعزيز الحوار متعدد الأطراف، ودفع الابتكار التحولي، وإطلاق الإمكانات البشرية، وتوجيه مختلف التحولات نحو الاستدامة.
وأعلنت عن استضافتها بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي اجتماعا دوليا دوريا رفيع المستوى خاصا بالمنتدى ابتداء من النصف الأول من 2026 من خلال مشاركتها في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي 2025 الذي عقد في مدينة دافوس السويسرية في الفترة 20-24 يناير 2025، خصوصا بعدما قدمت السعودية أثناء مشاركته افي المنتدى مجموعة من الحلول لأبرز التحديات التي تواجه العالم حاليا.
وهو ما جعل المنتدى الاقتصادي العالمي بالشراكة مع مؤسسة المنتدى الدولي للأمن السيبراني عن إطلاق مركز الاقتصادات السيبرانية وسيكون مقره مدينة الرياض، وأن يكون مركزا فكريا عالميا يتناول الأبعاد الاقتصادية للأمن السيبراني، من أجل العمل على توفير معلومات موثوقة ودراسات معمقة تمكن صناع القرار حول العالم من بناء فهم عميق للعلاقات الوثيقة بين الاقتصادات والأمن السيبراني من أجل صياغة سياسات واستراتيجيات تضمن حماية الاقتصاد العالمي.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقا