د.عبدالله بن موسى الطاير
صرَّح أحد المسؤولين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية أن القوة ليست في التنوع وإنما في الوحدة، وهو بذلك ينقض قاعدة راسخة في الديموقراطيات الغربية التي قررت منذ البدايات، وبناء على أدبيات أفلاطون أن القوة في التنوع Diversity، فالاعتقاد بقيمة المداولة، كما تشير مقالة في موقع جامعة ديوك الأمريكية حول الاستقطاب السياسي، يعود إلى زمن أفلاطون على الأقل، ولكنه اكتسب زخماً خاصاً مع انتشار مقال جون ستيوارت ميل «عن الحرية» في عام 1859م، ففي معرض إشادة الأخير بتنوع الآراء، قال إنه «لا يمكن الحصول على بقية الحقيقة إلا من خلال تصادم الآراء المعارضة»، وكان متفائلاً للغاية بقدرة الحقيقة على قدح نورها من تلقاء نفسها. أفلاطون ومن بعده ميل ومن لف لفهم من المفكرين الغربيين أسسوا لا حقاً ما يُسمى بـ»الديمقراطية التداولية» التي توسَّع التنظير لها، واجتهد روادها في تحديد العمليات المثالية لصنع القرار الديمقراطي، التي من شأنها أن تحقق «إما الحقيقة أو الفضيلة، أو على الأقل تجارب مستقلة للحكم الذاتي».
صحيح أن أمريكا جاءت متأخرة، لكنها تصدرت المشهد الديموقراطي الليبرالي بحزبين سياسيين رئيسيين، الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين، كانت أجندات الحزبين السياسية متقاربة إلى حد كبير مقارنة بما هي عليه اليوم، وتنعم بتنوع أكبر في الآراء داخل كل حزب. وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، تطرف الحزب الديمقراطي أكثر نحو «اليسار»، في حين تطرف الحزب الجمهوري أكثر نحو «اليمين»، وعلى الرغم من تزايد حدة الاستقطاب السياسي في بلدان ديموقراطية عديدة، حول العالم، فإنه أكثر ظهوراً وحدة في الولايات المتحدة الأمريكية.
اختلاف أيدلوجية وبرنامج الحزبين السياسيين الأمريكيين ممارسة راسخة وبخاصة حول تنظيم الحكومة الفيدرالية الاقتصاد، والسلطة التي ينبغي منحها للحكومات الفيدرالية في مقابل المحلية، وشبكة الأمان الاجتماعي التي ينبغي للحكومة أن توفرها. وبشكل عام، يرتبط اليسار بالسياسات الليبرالية اجتماعياً والسياسات الاقتصادية التي تخلق شبكة أمان اجتماعي أكبر، في حين يرتبط اليمين بالسياسات المحافظة اجتماعياً وقلة التنظيم للاقتصاد.
ولبيان الفجوة الاجتماعية التي وصلت إليها أمريكا بين أتباع الحزبين ففي عام 1960م لم يكن 4 % من كل من الديموقراطيين والجمهوريين سعداء بالمصاهرة مع الحزب المنافس. هذه النسبة ارتفعت عام 2019م إلى 45 % من الديموقراطيين و35 % من الجمهوريين. وفي حين كان 21 % من الجمهوريين لا يحبون الديموقراطيين عام 1994م في مقابل 17 % من الديموقراطيين، فقد ارتفعت النسبة عام 2022م إلى 62 % من الجمهوريين الذين لا يفضّلون الديموقراطيين، و54 % من الديموقراطيين الذين يبادلونهم المشاعر ذاتها.
ورغم أن الاستقطاب السياسي ليس جديدًا في التاريخ الأمريكي، فإن المستوى الحالي للانقسام مرتفع بشكل خاص مقارنة بالعصور السابقة، مثل منتصف القرن العشرين، عندما كان هناك المزيد من التفاعل والقبول بين أتباع الحزبين. ولا ريب أن أحداثاً بعينها، مثل محاكمات الرئيسين الديموقراطي بيل كلينتون، والجمهوري دونالد ترامب، والانتخابات الرئاسية لعامي 2000 و2020، وأعمال الشغب في الكابيتول في السادس من يناير 2021م قد عمَّقت الانقسامات في النسيج السياسي والاجتماعي الأمريكي.
تاريخياً، كانت فترات الاستقطاب الشديد تتبعها فترات من الوحدة النسبية، والتي كانت مدفوعة في كثير من الأحيان بتهديدات خارجية أو تحديات وطنية كبيرة، فمثلاً أسهمت أحدث 11 سبتمبر 2001م في توحيد الأمريكيين عقب انتخابات عام 2000م المثيرة للجدل، كما أسهمت جائحة كورونا إلى حد ما في تخفيف وطأة أحداث 6 يناير 2021م، ومع ذلك، فإن الوضع الراهن يشير إلى أن الاستقطاب السياسي في أمريكا تجاوز حدود المعقول، وقد لا يتبدد بسهولة دون جهود متعمدة لمعالجته، وأخشى أن تكون المعالجة الوحيدة هي التوجه لحرب خارج حدود أمريكا.